بين الأمس واليوم/ الجزء الحادي والسبعون
كانت كاسرة قد أصبحت قريبة جدا من الدرج حين وقفت لثوان
رغما عنها شعرت أن قلبها يعتصر إلى حد الإجهاد
غرفته قريبة جدا تكاد تشعر برائحة عطره تعبق في الجو فعلا
كما لو كان عبر المكان منذ ثوان فقط
يا الله كم اشتاقت له ولعطره ولصوته وحتى للؤمه وخبثه !!
تنهدت بوجع عميق وهي تتحرك متجهة للأسفل
لتتفاجأ برائحة العطر -التي كانت تظنها طيفا- تحيط بها تماما إحاطة السوار بالمعصم حتى دخلت أقصى حويصلاتها الهوائية!!
ويد قوية جدا تطبق على فمها
والأخرى تحيط بخصرها وتكتف ذراعيها لجنبيها وتحملها لتسحبها بخفة إلى مكان تعرفه جيدا!!!
لم تستطع أن تستوعب شيئا حتى سمعت صوت إقفال الباب وهو يشدها لآخر غرفة الجلوس في جناحه
حينها أفلتها لتراه واقفا أماما بكامل أناقته كابن للعريس أو ربما والده
بكامل بروده وثقته وصفاقته !!
اتسعت عيناها بشدة الصدمة الكاسحة غير المتوقعة وجسدها يرتعش
ولشدة صدمتها وغضبها وقهرهالم تعلم ماذا تقول أو تفعل كل ماخطر ببالها هو سيل شتائم لا ينقطع كان بعض شذراته المتناثرة:
والله العظيم أنت مجنون مجنون مكانك مستشفى الأمراض العقلية
أنت حرام يخلونك تمشي بين البشر
أنت أساسا خطر يخلونك فالت كذا أنت فاقد الأهلية خبل ورأسك مافيه ذرة عقل
أجابها ببرود وهو يلوح بالمفتاح وبهاتفها في يده: خلصتي شتيمة
كاسرة تكاد تجن من الغضب: عطني المفتاح خلني أطلع أكيد أختك الحين تدور لي
كساب بثقة : عادي لو نزلت ومالقتش بتظنش رحتي للبيت
كاسرة بغضب متزايد: أخواني بيدورون لي الحين
كساب بذات الثقة: صدقيني ماحد بيدور لش كل واحد بيدخل غرفته ويسكر على نفسه
ولو دوروا عادي خلهم يدرون إنش قررتي ترجعين لي
كاسرة تكاد تموت من شدة القهر: أنا قررت أرجع لك
كساب بابتسامة واثقة: أجل ويش بتقولين لهم إني خطفتش
عيب عليش عيب عليش مرة وش كبرش وتقولين رجالش خطفش
الحين أنتي بتقعدين عندي هنا مثل الشاطرة وبدون ازعاج
وأدري إن غرورش مارح يسمح لش تصيحين أو تستنجدين أو تصغرين نفسش وتقولين إني مسكر عليش في غرفتي
وبكرة عقب مايدرون كل الناس إنش أمسيتي عندي
أدري إنه مستحيل تفكرين تطلعين من هنا مرة ثانية عشان ماحد يقول لش ليه رجعتي وأنتي ناوية تخلينه
كاسرة تشد لها نفسا عميقا وهي تحاول دراسة الموقف: زين وأنت الحين وش بتستفيد من ذا كله
كساب بنبرة أقرب للسخرية: وش بأستفيد
بأستفيد إنش بترجعين لي طبعا
كاسرة تحاول أن تتكلم بمنطقية: بذا الطريقة بذا الإسلوب
مافيه حد يرجع مرته كذا غصبا عنها
كساب هز كتفيه بثقة: أنتي ماخليتي لي طريقة ثانية راكبة رأسش ومصممة على الطلاق
وأنا واحد مستحيل أطلق نعيش حياتنا كذا يعني كل واحد في بيت
حينها سألته كاسرة بألم مختلط بنوع غريب شفاف من الأمل:
والحين أنت سويت ذا اللفة كلها عشان ترجعني
كساب بثقة بالغة: تقدرين تقولين كذا!!
لا تعلم كيف تصف إحساسها وأمل عذب جدا ينتعش في روحها إلى درجة الطعنات العذبة
همست بنبرة مموهة تخفي خلفها امتدادات شاسعة من أمل مجروح ألا تقول عنه والدتها أنه رجل عاشق :
زين وليش تبي ترجعني
بــعــثــرها !! بعثرها بقسوة بوحشية مزق براعم أملها تمزيقا وهو يهتف بتكبر:
لأن اللي أبيه أسويه وماحد يمشي شوره علي
كانت روحها تدمي تدمي تنزف طوفانا من الألم همست بحزم بالغ بمقدار وجعها:
كساب لو غصبتني أرجع بذا الطريقة صدقني قلبي عمره ماراح يصفا لك
حينها أجابها بحزم أكثر صرامة: وأنا يعني وش بأستفيد وقلبش صافي لي وأنتي بعيدة عني وحتى الشوفة ما أقدر أشوفش
يا فرحتي بقلبش الصافي خلني أعيش مع إحساسه اللي بيوصلني عبر اللاسلكي وكل واحد منا في بيت
ثم أردف بحزم أشد وأشد: قلبش صافي مهوب صافي المهم إنش هنا. وجنبي
كان يتحاور معها في جدلها العقيم كما يراه بينما كل مايريده هو أن يسكت ضجيج كلماتها بدفن وجهها في منتصف صدره
حينها يعلم أن لهيب صدره سيذيب كلماتها
أو ربما دفء أنفاسها وهمساتها سيدفئ جليد ضلوعه
ففي بُعدها اجتمع في صدره الضدين. الجليد والنار!!
لتهذي كما تشاء
فـهــو لايعلم متى ستعلم أن هناك كلمات لا تقال لا تقال ولكن تُحس تُحس
كان ينظر لها بتمعن وهي ثائرة وتهذي وتهذي ماعاد لديها سوى الهذيان!!
كانت نظراته تشرب ملامحها بعطش أرض بور نزلت عليها قطرات يتيمة من المطر
لا يرمش حتى لا تفوته انحناءة واحدة من انحناءات جبينها المقطب بغضب شفتيها المتدفقتين بحممها يديها المتحركتين بثورة!!
مازالت تفاصيل غضبها كما هي منذ طفولتها وهي تفتنه بها وهو يذهب مع والده مرارا وتكرارا لمجلس جدها
لم يكن يفهم حينها أي سحر يجتاحه وهو يشعر بحيوية غضبها الطفولي حين يثيرها بالسخرية منها
الآن يعلم كيف تغلغل هذا السحر في روحه حتى أقصاها
حتى مع توقفه عن رؤيتها بعد وفاة والدته وسمية فهو كان بدأ يعي قبل ذلك أنها بدأت تكبر وماعاد يصح جلوسها مع جدها في المجلس
حينها لا يستطيع تفسير فتوره وعدم رغبته في الذهاب مع والده
لماذا يذهب إن كان لن يراها ويسخر منها حتى تغضب
كطفل كان يظن أنه يحب اللعب مع البنات وأي سخرية سيحضى بها لو علم الآخرون !! لذا أنكر الأمر حتى على نفسه!!
وإذا كانت كاسرة قد نسيته تماما فعلا وهي تكبر وماعادت تذكره حتى
فهو أدعى أنها تناساها مع إنشغاله بالكثير من الأشياء
لكن كيف يتناسى والعلامة في خده مازالت ماكنة واضحة
وكأنها في اللحظة التي قررت أن تدخل حياته بطبع قبلة طفولية على خده
قررت أن تترك على جسده علامة وكأنها تخبره أنه أصبح من أملاكها
وهو فعل بالمثل " إن كنت سأصبح ملككِ فأنت أيضا ستصبحين ملكي!!"
قد يكون مر بالكثير الذي قلب حياته رأسا على عقب وآخر ماكان ينقصه أن يفكر بطفلة عبرت أيام طفولته
وقد يكون غرق في كثير من الأفكار التي غطت مشاعر الطفولة وأفكارها بغطاء من الغبار الذي لم يكن يحتاج سوى لبعض النفض
وإن لم تكن تغطت تماما حتى!!
فهو لا ينكر على نفسه إحساس غير مفهوم يشبه سكون النسيم حين يمر قريبا من بيتهم!!
لا ينكر أن عينيه رغما عنه تابعت سيارة تخرج من باحة بيتهم وهو يتساؤل
( من بداخل السيارة)
لا ينكر أن شعوره حين ضرب من تبع سيارتهم تجاوز الإحساس بالحمية إلى الإحساس بالتملك!!
لا ينكر متابعته لأخبارها من بعيد جدا وأنها مازالت لم تتزوج وأنها ترفض كل من يتقدم لها
فهل كانت تنتظره وهو غارق في عالم عقده وسوداويته وغموضه
وربما لو لم يعرض عليه والده الزواج منها لربما ظل في غيبوبته التي لا يعلم متى كان سيصحو منها
حين أخبره عمه أن والده يريد تزويجه من بنت ناصر أجاب بسخرية: بل ابنة حبيبة القلب
لكن خلف السخرية كانت هناك تساؤل محموم أعلم أنهما اثنتان أيهما أيهما
وتظل مشكلته الأزلية التي تعاظمت بعد موقفه مع مزون افتقاره للشفافية في المشاعر
كان سيموت ليعلم ماهو اسمها
أ هو ذات الاسم الذي رسخ في ذاكرته أم اسم آخر
سأل عمه ولكن عمه طلب منه أن يسأل والده لأنه لا يعلم
العلاقة المعقدة بينه وبين والده لم تسمح له أن يسأل
ولا يعلم كيف استطاع الصبر حتى يسأل خالته
حين أخبرته خالته ظن أنه سمع لحنا عذبا سكن أذنه
ولولا تكبره المقيت وإلا لكان قفز ليقبل خالته.
أجابها حينها بجواب يشبه ماقاله لجدها سيغير اسمها لو تزوجها
رغم أنه يظن أنه لم يسمع في حياته اسما أعذب
أنكر معرفتها لأنه هكذا
مـــخــلـــوق مــعــقـــد !!
فلو أنكر معرفتها قد يستطيع إنكار تسلطها المجهول على روحه!!
وهو يكره أن يكون في موقف ضعف يكره أن يكون في موقف ضعف!!
وما مر به في حياته جعله يتعلم أنك حين تصبح في موقف الضعف ولو للحظة فإن من أمامك سيباغتك ويفرض سيطرته!!
هـي كانت مثقلة بالجرح تهذي عن كل شيء إلا عن حقيقة جرحها
تسبه تتهمه بالتسلط والجنون والتكبر والغرور
بينما كل ما كانت تريد أن تقوله: لماذا أنت عاجز عن أن تحبني كما أحبك
لشدة غضبها وجرحها وألمها وهي تنهمر بكل هذا الغضب لم تنتبه كيف اقترب منها حتى أسكتها تماما
حتى قبلته تشبهه مـتـكـبـرةمثقلة بالعنفوان واليأس والدفء اللاهب
"أ تهذي بينما هو يقتله الشوق لها؟!!
أ تهذي بينما روحه تذوب شوقا لعطر أنفاسها؟!"
كاسرة دفعته بقوة وهي تصرخ بغضب مرير: والله العظيم أنت أحقر مخلوق على وجه الأرض
لو قربت مني مرة ثانية والله العظيم بأصيح وبأفضحك وأفضح روحي مايهمني!!
هتف لها ببرود يختلف عن اشتعال مشاعره الثائرة حتى الترمد:
لو بغيت أقرب قربت ولا تقدرين تفتحين ثمش
بس أنا خلاص خذت اللي برد خاطري الحين
وترا صار لي أكثر من شهر ونص محروم عادي نزيد عليهم يوم يومين شهر شهرين لين يطيح اللي في رأسش
كاسرة بمرارة حقيقية: أنت وش جنسك من ويش مخلوق
ما تحس!! ما عندك مشاعر !!
لو أجاب بحقيقة مايشعر لقال لها (المشاعر كلها لكِ والإحساس كله لكِ وحدكِ)
ولكنه اعتاد أن يجيب بغير ما يشعر به أجابها ببروده المحترف الذي دفع فيه سيطرته هو على الموقف:
خلينا المشاعر لش وخصوصا إنش مغرقتني مشاعر لين اختنقت!!
ماذا يضر أن يستمر في تمثيليته فهو يعيش في عالم من الإزدواجية منذ تزوجها
بل حياته كلها قائمة على الإزدواجية فكما يعيش حياتين يستطيع أن يعيش الشعورين
الاحتراق واللهفة والألم والعشق اللامتناهي داخلا!!
والبرود والتكبر والقسوة خارجا!!
وكما لو أن أهله ومعارفه علموا بحياته المخفية فهذا سينعكس على حياته الأساسية
فهي لو علمت بحقيقة مشاعره تجاهها سيجعلها هذا في موقع القوة التي ستجعلها تفرض شروطها على مشاعره الخارجية الظاهرة
فهي تماما كأمها أمها لأنها علمت أن زايد مولع بها أحرقت قلبه ودون أدنى رحمة أو تراجع أو شفقة
وكاسرة أيضا لو علمت أنه مولع بها ستحرق قلبه دون رحمة!!
لابد أن تسلم هي أولا حتى يكون من يفرض سيطرته على قلبها حينها هو مستعد لدك كل الحواجز والأسوار!!
فمثل كاسرة يجب أن تشعر أنها مهددة حتى تستطيع الاستيلاء على روحها!!
كساب هتف ببرود وهو يتجه للداخل ويحمل في يده مفتاح الجناح الأساسي وهاتفها: أنا بروح أنام
وأنتي مافيه داعي تقعدين قاعدة بعباتش كذا
الدولايب مليانة ملابسش
ثم أردف بخبث مقصود: أستغرب إن وحدة زعلانة من رجالها وتبي الطلاق ومافي أذنها ماي.
ومع ذلك ماخذت شيء من ملابسها حتى عقب ذا الأسابيع كلها!!!
*************************************
مر دقيقتين ربما منذ غادرتهما مزون
والصمت مطبق في المكان
مزنة رغما عنها وبحياء الأنثى السوية الفطري لم تستطع أن ترفع عينيها لزايد
بينما هو كان في عالم آخر يخشى حتى الموت أن يراها
لا يعلم ما الذي يخشاه في رؤيتها
"ما الذي يخشاه
إن كان لم يحتمل رؤية أناملها فكيف حينما يرى حلم حياته ماثلا أمامه
هذا الذي هو يخشاه!!"
وفي ذات الوقت تمزقه رغبة بذات القوة أن يشبع جوع عينيه من رؤيتها!!
كل ما أستطاع أن يلمحه فيها أنها فعلا أطول منه ابتسم وهو يتذكر معايرتها له بقصره وهما صغيران
يا الله ما أعذب تلك الأيام في ذاكرته حتى معايرتها له يراها غاية في العذوبة!!
مازالت تتنازعه الرغبتان القاسيتان بين الرؤية وعدمها.
وعلى كلا الحالين لا يصح أن يقف أمامها كمراهق عاجز عن التصرف
هتف بحزم واثق وأريحية متقنة بلباقته المدروسة:
أم امهاب اقعدي تريحي ترا المكان مكانش وأنتي اللي تعزميننا فيه
حينها رفعت مزنة عينيها له
ولــيـتـهـا لم تفعل!! ليتها لم تفعل !!
شعر بصاعقة شطرته نصفين دون مبالغة
عيناها غابتان من حسن مثير لا يمكن إنكارهما أو تجاهل إثارتهما
أجمل حتى من أقصى خيالاته!!
ولــكــنـهـمـا
مختلفتان مـخـتـلـفـتــان!!
مختلفتان عن عينيها اللتين سكنتا خياله وحفرتا فيه كعلامتين غائرتين من النور والنار
أصغر قليلا أكبر قليلا لا يعلم أين الاختلاف!!
بالتأكيد أكثر جمالا بكثير وبدون أدنى مقارنة. ولكنهما مختلفتان مختلفتان!!
حينها لم يستطيع أن يفسر الحزن الشفاف الذي اجتاح روحه كالطوفان الهادر!!
عيناها اللتان كانتا تشعلان كل تفكيره اختفتا اختفتا!!
يعلم أن ثلاثين عاما تمر على إنسان لابد أن تغير في ملامحه ولكن ليس إلى هذه الدرجة!! ليس إلى هذه الدرجة!!
وربما لأن صوتها لم يتغير ولكن نضج بأنوثة موجعة توقع أن ملامحها ستكون نالت نصيبها من النضج دون أن تتغير
حاول إبعاد هذه الأفكار عن رأسه وهو يقول لنفسه" مازلت لم أرى وجهها كله
ربما حين تكتمل الصورة كلها سيبدو هذا الاختلاف -الذي أظنه- محض تخيلات!! "
مزنة جلست بناء على دعوته وهي تهمس بتهذيب رقيق: الله يكبر قدرك والمكان عامر بهله!!
لم يستطع أن يجلس حتى وهو يهتف بتثاقل: تريحي شوي وعقب توضي عشان نصلي!!
وقفت وهي تهمس بذات النبرة الراقية: أنا على وضي نصلي الحين
دقيقة أجيب سجادتي
قالتها وهي تتجه لحقيبتها التي رأتها في الزاوية فتحتها واستخرجت سجادتها وجلالها من أعلاها
ثم لمحها زايد بطرف عينه وهي تخلع عباءتها وتعلقها بين محاولاته الممزقة للنظر ولعدم النظر
لم يستطع أن يلمح سوى شلال كستنائي موجع انحدر حتى خصرها حين نزعت شيلتها عن رأسها ونزعت مشبكها لتعيد لف شعرها مرة أخرى
وهي لأنها كانت تراه يوليها جنبه وغير منتبه لها خلعت عباءتها بحرية وشيلتها وأعادت لف شعرها ثم ارتدت جلالها وتوجهت نحوه
وكخجل فطري لم تستطع أن تنظر له بوجه مكشوف بهذه السرعة
فكانت تمسك طرف جلالها وتغطي به أنفها وفمها وتهمس باحترام:
يا الله نصلي يا أبو كساب
زايد خلع غترته وأبقى طاقيته فقط على رأسه
حينها لا تعلم لِـمَ ابتسمت
ربما لأن شعره مازال مازال كثيفا وفاحما كما تذكره هي في أيام صباهما
وقفت خلفه وصليا الركعتين
وحين سلما أعادت وضع جلالها على طرف وجهها وهي تمسكه بكفها
استدار لها وهما زالا جالسين على الأرض ليضع كفه على رأسها
رغما عنه ارتعشت يده بعنف
فهذه هي المرة الأولى التي يجرؤ على مد يده لها وملامسة جزء من جسدها كلمسة فعلا بمعناها المقصود!!
أحقا هذه يده تلمس مزنة أخيرا أخيرا
يا الله ما أشد هذا الوجع الذي جعل قلبه يرتعش وأطرافه ترتعش وروحه المعذبة ترتعش وكل شريان ووريد في جسده يرتعش.!!
هو زايد يرتعش من قرب امرأة!!
شعرت بارتعاش يده وهو يدعو حين انتهى من الدعاء
رفعت رأسها وهي مازالت تغطي طرف وجهها بكفها وجلالها وهمست باحترام:
فيك شيء يأبو كساب
لم يجبها بل مد يده بثقة لبقة ليزيل كفها عن وجهها
لم تمنعه ولم تحاول تغطية وجهها عنه تعلم أنها ستبدو سخيفة لو فعلت ذلك
بل سمحت له أن ينظر لوجهها كيف شاء
وللمرة الثانية لـيـتـهـا لم تفعل!! ليتها لم تفعل!!
"يا الله ماهذا الذي يحدث لي؟!"
لم يبق من ملامح مزنة التي سكنت عمق روحه سوى شبح باهت سكن تفاصيل هذه المرأة أمامه
بالتأكيد مازال هناك شبه كبير جدا والمرأة أمامه أجمل بكثير من المرأة التي سكنت خياله
ولكنه يبدو كمجرد شبه بين قريبتين مهما كان قويا!!
فأين مزنة بتفاصيلها الحادة النحيلة المرسومة بدقة خانقة من هذه بوجهها المرتوي حسنا وإثارة لا حدود لهما بتفاصيلها الناعمة الثرية
ولكن جمال هذه التي أمامه لا يهمه لا يهمه أبدا
فتلك كانت مزنته هو!!
لكن هذه لا يعرفها لا يعرفها !!
حزن أكثر غرابة وعمقا وسوداوية بدأ يجتاح روحه
أ يعقل أن حلمه الأسطوري ينتهي هكذا هكذا !! بهذه البساطة فقط لأن ملامحها تغيرت قليلا!!
لأن مزنة ذات الخمسة عشر ربيعا بملامحها وعنفوانها وجنونها هي من سكنت خياله فقط؟!!
" تعوذ من إبليس يأبو كساب الظاهر من كثر ماحلمت في مزنة
يوم صارت في يدك استكثرت على روحك الحلم!!
يعني خلاص من كثر ما تعودت على الحرمان ماعاد تبي شيء غيره
ولا تقدر تتصور حياتك من غير ما تنكد على روحك
أول منكد على روحك بمزنة في خيالك
ويوم صارت مزنة عندك تقول لا ما أبيها عشانها صارت أحلى
خلك من الخبال ولا تفشل روحك في المرة !!
ويمكن ربي رحمك إنها تغيرت يمكن لو ما تغيرت ما تستحمل شوفتها قدامك!!"
مزنة بدأت تستغرب فعلا من هذا الرجل
صمته أكثر من كلامه
هل كساب أجبره عليها كما وضحى أجبرتها عليه
زايد أنهى تفكيره أن وقف ثم مد يده لها مزنة من باب اللباقة منحته كفها ليشدها ويوقفها
لكنه بعد أن أوقفها لم يفلت يدها ولم يستطع حتى لو حاول
فنعومة أناملها شعر بها تذوب بين أناملهوهو يحكم قبضته عليها
شعوره هذا زاده ألما غريبا عميقا
أهو يمسك بيده هكذا لأنها مزنة
أو لأنها محض امرأة هي حلاله وأثارته بنعومة يدها ؟!!
"يا الله لماذا يبدو كل شيء معقدا هكذا!!
وكيف أستطيع أن أشعر هكذا في حضرة مزنة
في حضرة مزنة!!"
همست مزنة بحرج: أبو كساب لو سمحت فك يدي خلني أحط جلالي
زايد حينها أفلتها وجلس على الأريكة فمازالا في قاعة الجلوس ولم يتجاوازها للداخل
مزنة خلعت جلالها وطوته داخل سجادتها
كانت ترتدي دراعة مغربية فخمة بلون بحري شفاف رائق
مازال لجسدها تفاصيله الثرية ولكنها مطلقا لم تفكر أن ترتدي فستانا ضيقا
رأت أن حيادية الجلابية وفخامتها أنسب لها بكثير
من باب الذوق توجهت لتجلس مع زايد كانت على وشك أن تجلس على مقعد منفرد ولكنه أشار لها أن تجلس جواره
تقدمت وجلست جواره ولكنها تركت مسافة فاصلة بينهما
ليصدمها بجرأته الواثقة البالغة أنه اختصر المسافة ليجلس ملاصقا لها
بل ويمد يده بكل ثقة لينزع مشبك شعرها ويحرر خصلاته من أسرها
همس بثقة تخفي خلفها ألما شاسعا لا يعرف سببه إلا هو: لون شعرش هو هو ما تغير
صمتت لم تستطع أن ترد عليه حتى وهو يمرر أنامله بحرية بين خصلات شعرها
لا تنكر شعورها بالاختناق من قربه هكذا ومن جرأته!!
تعلم أنهما غير صغيران وكلاهما سبق له الزواج ولكنها تراه مندفعا أكثر من اللازم
لم تعلم أنه كان يبحث بوجع محموم عن أي تفصيل صغير يقوده لمزنة تلك
فربما كانت مزنة تختبئ بين طيات شعرها وتريد من يحررها
حينها انتبه لنفسه وأن أنفاسها تصاعدت بارتباك لأنه أثقلها عليها
فتأخر قليلا وهو يسألها باهتمام: بنتش وضحى عاطفية كذا على طول
حينها همست مزنة بشجن حنون وهي ترفع عينيها له:
طالبتك يا أبو كساب وضحى بالذات لو تقدر عطها شوي زيادة من اهتمامك
يمكن كاسرة صارت تحبك مع العشرة بس وضحى معزتها كبيرة لك من زمان
حينها ابتسم ابتسامته الفخمة الواثقة: تعزني وهي ماتعرفني؟!!
ابتسمت مزنة حينها ابتسامة غاية في الشفافية: عاطفية على قولتك
"يا الله أي أنثى هذه!!
كل مافيها يأسر حتى النخاع وخصوصا هذه النظرة والابتسامة
تذيبان الحشا حتى العمق"
ولـــكــــن المصيبة.!!
المصيبة. المصيبة أنه عاجز عن الإحساس بها كما تستحق مزنة التي في خياله!!
كل شيء يشعر به قد يفتنه فيها يمنع نفسه أن يتجاوب معه بالإحساس المستحق لكونها مزنة
لأنه يبحث في كل ذلك عن مزنة أخرى مزنة ماعادت موجودة أبدا!!
فمزنة التي سكنت خياله وذكرياته تقف بينه وبين مزنة هذه
وبالتأكيد مزنته من تنتصر نصرا كاسحا!!
فكيف تقارن من سكن قلبك وخيالك وامتلك كل مافيك من مشاعر وأنفاس وصدى لسنوات لا حساب لها بشخص لا تعرفه؟!!
كـيـف
كـــيــــــف
*********************************