الصيام والإستقامة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا اله إلا الله ولي الصالحين الصائمين القائمين الراكعين الساجدين، يقول وقوله الحق ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 153).
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، يقول المعصوم صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا".
أيها الأحبة ونحن في شهر الصيام لا بد أن نعلم أن الصيام يربِّي المسلم على الصبر وعلى طاعة الله في رمضان؛ فلا ينبغي أن يختلف حالنا عن هذا الحال المستقيم.
ما هي الاستقامة إذن؟ هي الوفاء بالعهد وملازمة الصراط المستقيم، والجمع بين أوامر الطاعة واجتناب المعاصي.
والاستقامة ضد الاعوجاج، وهي ألا نختار على الله شيئًا، وخلاصة ما قال العلماء في معنى الاستقامة: "دوام حال العبد على محبه الله تعالى وطاعته واجتناب معاصيه والتوبة المعجَّلة منها حال وقوعها".
عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله روي فيك أنك قلت شيَّبتني هود، قال: نعم، قلت: ما الذي شيَّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله تعالى ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾.
قال ابن عباس: إنها اشد آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الله عز وجل في أمر الاستقامة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ (فصلت: 30).
وعن شعبان بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسال عنه أحدًا غيرك، قال "قل آمنت بالله ثم استقم".
لما احتضر أبو شعبان بن الحارث بكى الناس من حوله فقال: لا تبكوا عليّ؛ فلم أتلطَّخ بخطيئة منذ أسلمت.
وظل بشر بن الحارث الحافي لا يقع في غيبة لمسلم طوال حياته.
وقال ابن تيمية: "إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت" يعني أجدد إسلامي، وما أسلمت بعدُ إسلامًا جيدًا.
وكان السلف رضوان الله عليهم يعدون فوات صلاة الجماعة مصيبة، وقد وقع أن خرج بعضهم إلى حديقة نخل فرجع وقد صلَّى الناس صلاة العصر فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون فاتتني صلاة العصر جماعة، أشهدكم أن حائطي على المساكين صدقة".
قال الشافعي: "ما كذبت قط، ولا حلفت بالله، ولا تركت غسل الجمعة، وما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي".
لما برَّأ الله تعالى كعب بن مالك بسبب صدقه، قال: يا سول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي إلا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت، قال: فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمَّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو الله أن يحفظني فيما بقي.
ولقد عاب الله على الذين لا يستقيمون على حال، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (يونس: 12).
والخلاصة أن المؤمن يجب أن يأخذ من رمضان شهر الاستقامة على طاعة الله وعبادته زادًا لبقية عامه ليكون حاله بعد رمضان مستقيمًا على محبة الله وطاعته، ملتزمًا بأمره، مصلحًا من شأن نفسه وأمته، تائبًا مداومًا على العمل لدين الله ونصرته، أما أن يكون ذلك منه في رمضان ثم يتغيَّر إلى النقيض بعده فقد يكون هذا من علامات عدم القبول.
وليكن هناك درس عملي: ليكن لكلٍّ منا عمل سر مع الله عز وجل؛ فمثلاً على المدخن أن ينويَ أن يأخذ من رمضان حدًّا فاصلاً للتوبة من التدخين، وعلى هواة مشاهده الأفلام الخليعة أن يتخذوا من رمضان بدايةً لعدم انقطاعهم عن بيت الله والمحافظة على الصلاة في الجماعة، وعلى من يسيرون في ركاب أي ظالم أو فاسق يتقوون به ويقويهم على ظلم العباد أن يتخذوا من رمضان فرصةً للتوبة ويستقيموا بعده، وكلٌّ أدرى بنفسه وبطاعته وذنوبه.
فهلا استقامت الأمة بعد رمضان على ما كانت عليه في رمضان وتعلَّمت درس الاستقامة فيصدق فيها قول الحق جل علا ﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ (الجن: 16).
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الاستقامة على طاعته وعلى عبادته، وأن يثبِّت أقدامنا على الصراط المستقيم، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.
hgwdhl ,hgYsjrhlm