الحمد لله ؛ شرع لعباده ما ينفعهم ، ومنعهم مما يضرهم ؛ رحمة بهم ، وشفقة عليهم ، وإحسانا إليهم ؛ فله الحمد كما ينبغي له أن يحمد ، وله الشكر فلا أحد أحق بالشكر منه عز وجل ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ خلق الخلق ورزقهم ، وكلف الجن والإنس وهداهم ، فمنهم من قبل هداه فاهتدى ، ومنهم من أعرض عنه فَتَردَّى (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) [الأعراف:30].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ لا خير إلا دل الأمة عليه ، ولا شر إلا حذرها منه ، أحل لنا الطيبات ، وحرم علينا الخبائث ، ووضع عنا الأغلال والآصار التي كانت على من قبلنا ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد :
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل ، فاتقوه حق التقوى ، واعلموا أن الدنيا وإن طال أمل الإنسان فيها فهو مفارقها ، وإن طاب عيشه فيها فهو ينساها، ولا دار إلا الدار الآخرة ؛ فأعدوا لها عدتها ، واسعوا لها سعيها واعملوا بعمل الفائزين فيها (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء:77].
أيها الناس: إذا صلح الزمان صلحت الذمم والأخلاق ، وإذا فسد الزمان فسدت الذمم والأخلاق ، حتى ترفع الأمانة ، وتكثر الخيانة ، وتنتشر الأخلاق الرديئة من الكذب والزور والرشوة والظلم ، ويعم الفساد جميع مناحي الحياة ، وإنما يصلح الزمان والحال أو يفسدان بصلاح الناس أو فسادهم ، ويبلغ الفساد بالناس حدا يعجز معه أكثرهم عن أداء الواجبات ولو كان أداؤها يسيرا ، ولا ينتهون عن المحرمات بل والموبقات ، ولو كان البديل حلالا ؛ وما ذاك إلا لضعف النفوس ، وتسلط الشياطين ، وغلبة الشهوات.
ومن أكثر ما تساهل الناس فيه في هذا العصر مع أنه من كبائر الذنوب : غلول العمال ، وهو أن يأخذ الإنسان من الأموال العامة ما ليس له ، أو يسخر أدوات وظيفته أو نفوذه لنفع نفسه وقرابته ، لا لخدمة الناس وهو ما أجلس على كرسيه إلا لأجلهم ، وهذا من الظلم العظيم ، الذي يجر المجتمع إلى فساد عريض ، وصاحبه متوعد بالعقوبة الشديدة في الكتاب والسنة.
فمن غل شيئا لا حق له فيه دون المسلمين جاء يحمله على ظهره يوم القيامة ليحاسب عليه (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ) [آل عمران:161] قال أبو هريرة رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: لا أُلْفِين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح-أي الرقيق- فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق- أي الثياب ونحوها- فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت-أي الذهب والفضة- فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك" رواه الشيخان .
إنه تحذير شديد أكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة" أي: هي حالة شنيعة ولا ينبغي لكم أن أراكم عليها يوم القيامة، ومعناه لا تعملوا عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة ، ثم عدد أنواع المال وأخبر أن غالها يحمل ما غل منها على رقبته يوم القيامة ، ويؤاخذ به، نسأل الله تعالى السلامة والتخفيف.
وعلى عظم قدر الجهاد في الشريعة ، ورفعة منزلة المجاهدين عند الله تعالى ، حتى جاء في الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال عند الله تعالى ، ومع ذلك فإن من غل شيئا من المغانم فمتوعد بالعذاب في قبره ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد ممن غلوا في زمنه أنهم يعذبون في قبورهم بما غلت أيديهم
ولو كان ما غلوه قليلا كعباءة يلبسها أحدهم ، أو كساء يكتسيه ، أو شملة يتزرها ، أو سيرا يجعلها في نعله ؛ كما روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كان على ثَقَل النبي صلى الله عليه وسلم- أي على متاعه -رجل يقال له كَرْكِرَة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها" .
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القُرى ومعه عبد له يقال له مِدْعَم أهداه له أحد بني الِضباب فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد فقال الناس هنيئا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين فقال هذا شيء كنت أصبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك أو شراكان من نار" .
والشراك سير النعل على ظهر القدم، فإذا كان الغال يؤاخذ بسير النعل الذي لا يساوي شيئا فكيف بما فوقه من المال والمتاع العظيم ؟! فيا ويل من استحلوا الأموال العظيمة بمجرد وصولهم إليها ، وائتمانهم عليها ، ويلهم ،ماذا سيحملون يوم القيامة على رقابهم؟ وما جوابهم لربهم حين يسألهم ؛ إذا كان سبحانه قد عذب أشخاصا في قبورهم في شملة وعباءة ، وسير نعل ، فما أعظم الأمر - أيها الإخوة - وقد تساهل الناس به ، وما أكثر الواقعين فيه ، نسأل الله تعالى الهداية والنجاة لهم ولأنفسنا ولجميع المسلمين آمين آمين.
وفي حديث آخر أكد عليه الصلاة والسلام على وجوب أداء الكثير والقليل ، وعدم احتقار الشيء مهما كانت قلته ووضاعته في نفس آخذه ما دام أن لغيره فيه حقا ، فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرَة بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخُمْس والخمس مردود عليكم فأدوا الخَيْط والمَخِيْط وأكبر من ذلك وأصغر ولا تغلوا فإن الغُلُول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة) رواه أحمد .
ولما قال رجل لسلمان رضي الله عنه: "إني أخذت خيطاً من الغنيمة فخطت به ثوبي قال:كل شيء وقدره".
إن القضية ليست في شملة أو عباءة ، أو سير نعل ، أو خيط أو ما سواه مما يحتقر في العادة ، ولكن القضية قضية دين يدين الناس به لربهم ، وخلق يتخلقونه ، وأمانة يؤدونها ، ومن أخذ ما يحتقر أخذ ما فوقه ، ومن امتدت يده إلى سير نعل امتدت إلى جام ذهب أو فضة ، ومن فتن بقليل المال فاستحله من غير حله ، ففتنته بكثيره أحرى وأولى.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على صاحب الغلول مع أنه ما غل إلا شيئا يسيرا لا يكاد يذكر ؛ كما في حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه يحدث "أن رجلا من المسلمين توفي بخيبر وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوا على صاحبكم قال فتغيرت وجوه القوم لذلك ، فلما رأى الذي بهم قال :إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود ما يساوي درهمين" رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم.
ومن تربيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه ، وتأديب المخالف منهم ، وتعظيم أمر الغلول في نفوسهم :أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يقبل ممن غل إرجاع ما غل بعد قيام الحجة وانتفاء العذر ؛ كما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه فقال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوز بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا كان مما أصبناه من الغنيمة ، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا ، قال: نعم قال فما منعك أن تجيء؟ فاعتذر إليه،فقال عليه الصلاة والسلام:كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك" رواه أحمد .
وأعظم من ذلك : أنه عليه الصلاة والسلام كان مرة في مؤخرة الجيش والناس جوعى ، فاجتهد بعض من كانوا في مقدمة الجيش ، فذبحوا شياها من الغنائم وطبخوها للجيش ، فما قبل عليه الصلاة والسلام اجتهادهم ، وأنكر فعلهم أشد الإنكار ؛ كما روى البخاري عن رافع بن خديج رضي الله عنه فقال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس جوع وأصبنا إبلا وغنما وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور فأمر بالقدور فأكفئت" .
وفي رواية لأبي داود عن رجل من الأنصار قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما فانتهبوها فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة" فجعل صلى الله عليه وسلم فعلهم نهبة انتهبوها من الغنيمة قبل قسمتها ، وأكفأ قدورهم إنكارا عليهم ، مع جوعهم وحاجتهم ، وأخبرهم أن الميتة أحل من فعلهم.
ولما علم بعض الصحابة رضي الله عنهم ما في الغلول من الإثم العظيم، والعقوبة الشديدة، والفضيحة في الدنيا الآخرة ؛ استعفوا من الولاية ، واعتذروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبولها ؛ خوفا من أن يلحقهم شيء من الغلول ، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم ، وأعفاهم من وظائفهم ، كان منهم سعد بن عبادة رضي الله عنه وقصته في صحيح مسلم من حديث عدي بن عميرة الكندي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة قال: فقام إليه رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله اقبل عني عملك، قال: ومالك؟ قال:سمعتك تقول كذا وكذا ، قال عليه الصلاة والسلام: وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهى عنه انتهى" وفي رواية للحاكم قال عليه الصلاة والسلام : "يا سعد إياك أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، قال: لا آخذه ولا أجيء به فأعفاه"
وممن استعفى من الوظيفة خوفا من الغلول أبو مسعود الأنصاري الذي قال: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته ، قال: إذا لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذا لا أكرهك" رواه أبو داود .
وأعظم الغلول غلول الجار أو الشريك ؛ لما فيه من خيانته وقد أمنه ، روى الإمام أحمد من حديث أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض ، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة" وفي رواية : "أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع من أرض يكون بين الرجلين أو بين الشريكين للدار فيقتسمان فيسرق أحدهما من صاحبه ذراعا من أرض فيطوقه من سبع أرضين" .
أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه ، وبطاعته عن معصيته ، وبفضله عمن سواه إنه سميع مجيب ،
وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى؛ عم فضله وإحسانه كل الورى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،العبد المجتبى ، والنبي المصطفى ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أهل البر والتقى ، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب النهار والدجى.
أما بعد :
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
أيها المسلمون: إذا انتشر الغلول بين الناس ، ولم يجد أحدهم حرجا من امتداد يده إلى ما ليس له ؛ لضعف ديانته ، وفساد خلقه ، وجشع نفسه ، مع غياب المراقبة والمحاسبة والعقاب ؛ فإن أخلاقا رديئة تنتشر في الناس ، يأخذ بعضها برقاب بعض، وكل خلق سيء منها يدعو إلى خلق آخر أسوأ منه في سلسلة لا تنتهي من فساد الضمائر والأخلاق ، والأنانية والجشع ، مما يكون سببا في الظلم والبغي ، وينتج عنه الضغائن والأحقاد التي تؤدي بالناس إلى النزاع والشقاق ، ولا سيما عند اتساع الدنيا ، وكثرة الموارد ؛ ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعفة اليد ، وخطب في الناس عقب غنمهم لغنائم حنين محذرا إياهم من الافتتان بما يرون من أموال قد تكون سببا في الغلول فقال لهم عليه الصلاة والسلام : "من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ، ومن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" رواه أبو داود وفي رواية للبيهقي : "ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم".
وتأملوا -أيها الإخوة - قوله عليه الصلاة والسلام : "من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه" وقارنوه مع حال كثير من المتنفذين في الدوائر الحكومية والشركات والمؤسسات ؛ إذ يستحلون ما لا يحل لهم من السيارات وغيرها ويقسمونها في أولادهم وإخوانهم ، وكأنها ملك آبائهم ، ويعملون بها ما لا يعملون بسياراتهم وأمتعتهم ، حتى إذا ما خلقت أو تلفت أعادوها مرة أخرى ، وأخذوا بدلا عنها بلا وازع يزعهم ، ولا عقاب يردعهم.
و لقد كان المسك يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فيأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين ، ما ضرك إن وجدت ريحه؟ فقال رحمه الله تعالى: "وهل ينتفع من هذا إلا بريحه؟!".
إن الفساد الإداري والمالي قد ضرب أطنابه في أكثر بلاد المسلمين ، وأدى بهم إلى ما ترون من التخلف والانحطاط ، والفقر والحاجة ، وضعف الديانة وفساد الأخلاق ؛ حتى إن عفيف اليد في بعض المجتمعات المعاصرة غريب بين أقرانه ، ولربما حورب أو كفت يده عن العمل لعفتها ، وغاب السؤال المشهور:من أين لك هذا ؟ وحل مكانه:فلان ضيع على نفسه الفرصة بمثاليته ، ولو كنت مكانه لأصبحت من أثرياء الناس ، وأضحى كثير من هؤلاء الذين ضعف دينهم ، ومرجت عهودهم ، وفسدت ذممهم ، هم سراة الناس وقدوتهم بما يملكون من مال وجاه ، وكبروا أربعا على مجتمعات يكون أهل القدوة فيهم هم السراق والنهاب ، وأكلة الحرام ، وأهل الغلول.
وأدى هذا الفساد العظيم إلى تعطيل مصالح العباد في كثير من ديار أهل الإسلام ، وظلمهم بغير وجه حق ، فمن يملك الوظائف يغلها فيحبسها على بنيه وقرابته ، وأهل عشيرته وقبيلته ، ولو كان في الناس من هم أولى بها منهم ، ومن كانت مقاعد القبول في الجامعات والكليات بيده غلها وحرم منها أكفاء أولاد المسلمين ؛ ليحجزها لمن لا يستحقها، وهكذا دواليك في أكثر حاجات الناس ومصالحهم.
ألا فاتقوا الله ربكم - أيها المسلمون - وأدوا ما حملتم من أمانات ، وإياكم والغلول فإنه عار في الدنيا والآخرة ، ومن أخذ شيئا ليس له فيه حق من أموال المسلمين حمله على رقبته يوم القيامة ، وحوسب به ، ولا تحتقروا القليل مما ليس لكم كقلم وورقة ومكالمة هاتفية ونحوها ؛ فإن العبد يحاسب على القليل والكثير ، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، والقليل مع القليل يصير كثيرا ، ومن عود نفسه على الورع والمحاسبة أعتادت ذلك ، وإن من الغبن العظيم ، والخسران الكبير أن يجمع المرء مالا عظيما من طرق محرمة ثم يخلفها لوارثه ، وحسابها على ظهره ، فخسارة له ، وخسارة لمن باع آخرته بدنياه ، وأشد خسارة منه من باع آخرته بدنيا غيره ، وما أكثرهم في الناس وهم لا يشعرون بخطر ما يفعلون بسبب تمكن الدنيا من قلوبهم ، وغلبة الشهوات عليهم ، فاحذروا - عباد الله - أن تكونوا منهم وأنتم لا تعلمون ، أو تتشبهوا بهم ، أو تتمنوا أفعالهم ، وليكن قدوتكم في عفة اليد ، وطيب المطعم ، وأداء الأمانة : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، والصالحين من المؤمنين.
وصلوا وسلموا على أفضل الرسل ، وخير البشر.
م/ن
مما راق لي
من خطب فضيلة الشيخ/ إبراهيم بن محمد الحقيل
جامع فهد المقيل بحي الرحمانية الغربية بالرياض
أبو شهد
% yg,g hgulhg %