عن طريق الوعي يمتلك الإنسان قدرا من الحرية في تحديد حاضره ومستقبله
توجد انتقائية في الوعي الإنساني. إنه يركز على بعض الأشياء ويتجاهل أشياء أخرى. ويتجلى الوعي في الفكر. الفكر إدراكي. إنه شيء إدراكي. والوعي ليس عبارة عن قطع فكرية صغيرة، أو كتل فكرية منقطعة الواحدة عن الأخرى، ولكنه يتدفق مثل دفق أو تيار فكري. وضمن هذا التدفق تبرز سمة بنيوية أساسية. ضمن هذا التدفق يجري التركيز على مفهوم أو شخص أو شيء ما، ولكن دائما على خلفية أوسع وأغنى. والنقطة البؤرية يحفها حقل من المشاعر والمدركات الحسية التي يسهم في تحديدها الزمان والمكان. وكلها تؤدي دورها في تشكيل معنى الشيء المركزي أو البؤري والتجربة الإنسانية. وحينما يتغير انتباهنا تتغير أهمية الأشياء المختلفة وتتغير مواقعها، ولكن النقطة البؤرية تبقى كما هي.
والوعي ليس سلبيا. إنه يؤدي وظائف. ومن هذه الوظائف أنه قوة منظمة تخلق أنماطا من المعاني وتسلط الضوء عليها وتنظم التجربة الإنسانية.
والوجود الإنساني يتخلله قدر من الحرية. والعمل البشري يتمتع بقدر لا يستهان به من الحرية في حالة أو وقت الوعي البشري. وتوجد أسباب وجيهة للاعتقاد بأن العمل البشري ينطوي على قدر لا يستهان به من الحرية في هذه الحالة. لعمل الإنسان وقراره دور هام في ما يحدث وفي التغيرات التي تحدث. إننا نعيش في عالم يمكن دائما للانسان أن يمارس فيه قدرا من الحرية. وتكمن جذور الحرية في النزعة الإنتقائية لدى الوعي. ومعنى الحرية أن لدى البشر دائما في أوقات الوعي قوة على التحكم بتركيز انتباههم على الأشياء في العالم من قبيل المشاعر والناس والأفكار والاتجاهات. وما يلتفت إليه الناس في الوقت الحاضر والمستقبل لا يقرر على نحو تام بما قد حدث بالفعل.
إن انتباه البشر وتفكيرهم إختياران يؤديان طبعا الى العمل. وقد لا تكفي جهودنا لإنجاز ما نرغب في إنجازه أو نحتاج إليه، ولكن عن طريق توفر قدرة أصلية على تركيز الإنتباه تصبح الحياة البشرية والعالم كله تتخللهما قيم وأغراض وأعمال جديدة هي نتيجة عن القدر من الحرية الذي نمتلكه. وتوفر هذا القدر لدى البشر يعني أنهم هم الذين يسهمون في تشكيل ظروف الحاضر والمستقبل ويعني أن الماضي ليس الوحيد الذي يحدد حاضر البشر ومستقبلهم.
وبالنظر إلى أن الوعي انتقائي فإن الحرية تؤدي دورا في الوجود البشري. والبشر يقومون بالاختيار إلى حد معين، حتى سقف معين. ويسهم البشر عن طريق اختياراتهم إسهاما كبيرا في تقرير القيم والمعاني. ويقع على البشر قدر كبير من المسؤولية عن تحديد نوعية ومغزى حياتهم. وللبنية النفسية للإنسان أثر في تربيته الدينية. والأمل الذي هو صميم الحياة البشرية يتجلى تجليا طبيعيا في العقيدة.
والفكر شخصي، بمعنى أنه نابع من شخص من الأشخاص ومستمد منه. والتجارب ممتلكة، بمعنى أنها تعود إلى شخص من الأشخاص. والأفكار والتجارب مستمرة ومتغيرة باستمرار. ولا توجد أبدا تجربتان متطابقتان أو متماثلتان، وذلك لأننا نجرب أشياء هي أو بعض منها في حالة تغير مستمر أيضا. وحتى الأشياء التي قد لا تتغير نجربها مرارا ولكن تجربتها تختلف الواحدة عن الأخرى بحكم تغيرنا نحن أنفسنا بسبب الظروف المختلفة المتغيرة.
وعلى الرغم من أن الفكر شخصي فإنه يعالج شيئا غير نفسه. إننا نعرف عالما ونعيش في عالم ليس من صنع أنفسنا. ولكلماتنا وأفعالنا أثر ولكن أثر محدود في ما يجري في هذا العالم. ومما تسهم في التأثير في هذا العالم الذي نعيش فيه المصالح التي لدى الانسان، التي قسم منها غريزية، والاختيارات التي نقوم بها.
وعلى الرغم من أن التغير يحدث باستمرار فلا شيء أبدا يمحي تماما في التجربة. فكل تجربة تترك أثرها في التجارب التالية ولكن تلك التجربة وتلك التجارب لا تزيل القدر من الحرية الكائن في عمل الإنسان في حالة وعيه.
ويختلف البشر بعضهم عن بعض في مدى تأثرهم بالماضي، وتختلف المجتمعات والظروف بعضها عن بعض في مدى التأثر. فذلك التأثر إما يقل أو يكبر تبعا لعوامل طبيعية واجتماعية ونفسية للإنسان دور في تحديد مدى قوتها. وتحديد الإنسان لمدى قوة تلك العوامل مرده أيضا عوامل طبيعية واجتماعية ونفسية وعامل ممارسة الاختيار بقدر معين الذي يقوم الإنسان به.
وبالنظر إلى أن لدى الإنسان قدرا من الحرية في تحديد حاضره ومستقبله وإلى أن لدى الإنسان دورا في هذا التحديد فإن الحاضر والمستقبل – وخصوصا المستقبل – غير مشكلين وغير جاهزين تماما، وذلك لأن الإنسان هو الذي يسهم عن طريق ممارسته لقدر من الحرية في تشكيلهما.
وبالنظر إلى أن البشر يسهمون في أوقاتهم الراهنة في تقرير مسار مستقبلهم فإن من الخطأ أن تفسر أعمالهم في المستقبل بأنها ليست سوى نتائج مقررة لأسباب في الماضي. أعمال البشر في المستقبل من الصحيح أن تعني أن ممارسة البشر لقدر من الحرية – وهي الممارسة التي تتجسد في القيام بالاختيار – أسهمت في إنتاجها.
ويتصف الوجود البشري في مجتمعات كثيرة بالشعور بأن لدى الإنسان قدرا من الحرية وبأن الإنسان حر في هذا العالم وبأن الإنسان يمكنه أن يسهم في تشكيل الحاضر والمستقبل وأن يسهم اليوم في تقرير مسار المستقبل وبأن أعمال البشر لا تفسر تفسيرا كافيا بأنها نتائج مقررة عن أسباب في الماضي. هذه المشاعر عنصر في تجربة البشر وفي معتقداتهم وتنشئتهم الخلقية. وعن طريق هذه المشاعر يمكن تعزيز دور الحرية في الحياة وتحسين نوعيتها. وبالتالي فإن مفهومنا للحياة ولمعناها ولمغزاها يسهم في تشكيله شعورنا بممارستنا لقدر من الحرية.
ويبدو أنه يقوم تناقض بين القول بوجود قدر من حرية الاختيار لدى الإنسان، من ناحية، ونظريات العلة والمعلول أو السبب والمسبب أو السبب والنتيجة، من ناحية أخرى. وهذا التناقض وهمي. فالقدر من الاختيار الذي يقوم به البشر عملية تحدث داخل ذات الإنسان وهي تتجسد أو تتجلى خارجيا. وفي هذه العملية يشارك عامل نفسي وعامل بيولوجي. ويشارك أيضا عامل فكري اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي وعامل الذاكرة. والعاملان الأخيران متأثران بالعاملين السابقين وبالمحيطين الخارجيين الاجتماعي والطبيعي. ويقوم بين هذه العوامل كلها تأثير نشيط (دينامي) بمعنى استمرار التأثير المتبادل بين العوامل. هذا التأثير او التفاعل يفرز اتخاذ الإنسان لموقف عقلي عاطفي نفسي نطلق عليه اسم "الإختيار".
uk 'vdr hg,ud dljg; hgYkshk r]vh lk hgpvdm td jp]d] phqvi ,lsjrfgi