فلسفة الصوم
حقيقة الصوم
الكيان الإنساني ـ بحكم فطرته التي فطرهُ الله عليها ـ وحدة. تشمل الجثمان والروح. تشمل (المادة) و (اللامادة)
فهو مؤلف من قبضة من التراب، تتمثل فيها عناصر الأرض، من حديد، ونحاس، وكالسيوم، وفوسفور، وأوكسجين، وهيدروجين. لتشيع فيه شهوات الأرض، ورغبات النفس، ونزوات الحسِّ الغليظ.
. ونفحة من روح الله، تنبعث منها سبحات العقل، وتأملات الفكر، ورفرفات الروح.
والعجيبة في هذا الكيان البشري، أنَّ ذلك الشتات النافر المنتثر، قد اجتمع وترابط وتوحد، وأصبح أكبر قوة على الأرض! ذاك حين تقتبس الذّرة المجهولة، من قوة الأزل السافرة، فتشتعل وتتوهج، وتنبثق طليقة جاثمة، تمتزج فيها المادة، واللامادة، فهما سواء.
وفي ذات الوقت يحتفظ، كلَّ باستقلاله وإشاءاته ورغباته. وينشب الصراع الحامي الطويل، فأيهما انتصر، ملك قياد الفرد، وسرى عليه نفوذه وسلطانه.
فالجسم المادي، مركب من البسائط الأرضية، وخاضع لأحكامها، فهو لا شيء غير مادة عضُوية، مركبة من خلايا تشبه خلايا الحيوان والنبات. وبحكم فطرته المركبة، سائر إلى الاستحالة، والانحلال، إلى أجزائه البسيطة السابقة. وأما الروح المشرقة، فليست مركبة من بسائط أولية، حتى يحكم عليها بالاستحالة إلى تلك البسائط، بل هي باقية أبدية.
ولكلٍ من الجثمان والروح، مطالب تناسب طبيعته، ودرجته في مراتب الوجود، فالجثمان لا يفترق عن بقية أنواع المادة، في قبوله للزيادة والنقص والقوة الضعف، والتحلل والتركيب. ومن أجل ذلك، فهو محتاج إلى مقوّمات تقومه من نوعه، كالغذاء والكساء والسكن. ولكن الروح ـ بطبيعته العلوية النيرة ـ لا تطلب المقومات العنصرية، وإنّما هي تواقة إلى الشرف والكمال، للإلمام بأسرار الملكوت، والتطلّع على ما وراء الطبيعة.
وإذا كانت الروح تنزع إلى الكمال والارتقاء ـ والتجربة الإنسانية الصاعدة، دلت على مقدرتها على التحلق والارتقاء ـ فما الذي يصد بعض النّاس عن التطلّع إلى الكرامة الإنسانية، ويدحضهم في المجاهل والمزالق، ليتسفلوا متخبطين؟! نعم. إنّ الجسم بشهواته ونزواته، الذي يسجن الروح الشفافة عن التوثب والانطلاق. لأنَّ الجسم والروح ثقلان متأرجحان، ككفتي ميزان، لا تثقل هذه إلاّ وتخف الأخرى، ولا ترجح تلك إلاّ بمقدار ما تبخس هذه.
ولذلك نجد في النّاس من غلبت عليه مادته، فوهب نفسه لها، لا يفكر إلاّ في إشباع شهواته، كيفما أمكن ذلك الإشباع، فهزلت روحه، وتضاءلت منكودة حاسرة. ومنهم من محض للروح، فسمت وتعالت، بينما انهدت قواه وتكسر كيانه.
فأيُّ الطرفين قد أصاب الحقيقة، وأحرز النجاح الإنساني المنشود؟ لا جرم أنَّ كليهما قد أخطأ الواقع!. فأما من تطوّع للجثمان، وجرى في أعقاب الشهوات، فقد خنق إنسانيته، ولم يزد على بهيمة وحش. وأما من انقاد للروح، فقد هضم حقوق جثمانه، وعطل نظام الكون، ويكون أشبه بمن دخل حديقة غناء، ليستغلها وينعم بها، فتوّرع عنها، حتى صوحت أزهارها، واقتلحت قاعاً صفصفاً تأويها الحشرات والديدان.
إذن فعلينا أنْ نلتمس حاجات الروح والجثمان، فنعدل بينهما، ونوفيهما حقوقهما العادلة.
* * * * *
وإذا كان الجسم يحتاج إلى نظام الصحة، في استيفاء سعادته، فكذلك الروح، تحتاج إلى نظام الدين، في استيفاء نموها الطبيعي، ورشدها المأمول، والظفر بالأماني التي تشرئب إليها.
والصيام من سنن الدين، التي تعمل لتكييف الروح. وهو للروح كالرياضة السنوية للجسم، فكما أنَّ قانون الصحة، يُحتّم على كل عامل ـ يريد حفظ صحته ـ أن يريض نفسه شهراً كاملاً في السنة، يقلل فيه من غذاء النفس (أي العمل على الحقول الفكرية). كذلك نظام الصحة الروحية، يفرض على كل إنسان، أن يقلل شهراً في السنة من غذاء جثمانه.
ولما كانت بينة أطباء الأجسام، في ضرورة الإقلال من تغذية النفس، شهراً كل عام، هي لزوم تعويض ما فقده الجسم، من القوة، مدى الأحد عشر شهراً، نتيجة الانهماك الفكري. كذلك حجة أطباء الأرواح، في القصد من الطعام مدى شهر كل سنة، هي تعويض ما فقدته الروح الإنسانية من جراء تفرغ الإنسان، للماديات طوال العام.
وليس الهدف من هذه التحديدات، إلاّ حصول الموازنة، بين الروح والجسد، وعدم غمط حقوق تلك، للتوفير على هذا، أو إهمال هذا لتشجيع تلك. كيما يعيش الإنسان كاملاً معتدلاً، في مناخ قانوني، يسنح لروحه وجسمه معاً، أنْ يُعبّرا عن سجيتهما، ويبلغا أقصى مدى إمكانات النبوغ والرشد فيهما.
ذلك، كان مشهداً من تصارع الجسد والروح، وكانت حكمة الصيام فيه بالغة.
هناك قوى أخرى تتصارع في الإنسان، لا بد من إنصافها في نفسها، وللصيام في معاركها إصبع، بل مسند القضاء.
. لأنَّ الإنسان جسد وروح يتصارعان. وشهوة وعقل لا يفتأ بينهما الصراع، غير أن الشهوة تتشيع للجسد، والعقل يتشيع للروح، فالجسد والشهوة معاً في جانب، والروح والعقل معاً في جانب، ومجال الصراع هو الإنسان.
فكما أنَّ الجسد يحتاج إلى الغذاء العنصري، كذلك الشهوة تحتاج إلى الغذاء الجنسي. ولكنهما ينطلقان من نقطة واحدة، فمتى شبع البطن تحركت الغريزة لترتوي، وكلما سكنت الغريزة هدأ الجسد.
فلذلك كان لا بد أن تسكن الغريزة ويهدأ الجسد، ليتحرك العقل وتنشط الروح. ومن أجل هذه الحقيقة، كان الصوم أجدى وسائل تربية العقل والروح معاً. أو لا ترى كيف يمنع بصرامة، تحركات الغريزة والجسد معاً، ويجعل لهما كفارة سواء.
* * * * *
ومن هنا كان الصوم، ركناً هاماً من أركان الدين. وهو الركن الذي يجمع بين واجب التعبد، وبين ترويض الجسد والغريزة، مما حل لهما المتاع به، في فترات دقيقة رتيبة، ليستريحان بين الحين والحين، وينشط العقل والروح.
وهنا تكمن عبقرية الإسلام، فليس هو دين دنيا فقط، ولا دين آخرة فحسب. بل هو دين الحياة بجملتها الشكلية والزمنية. دين العالمين، من يوم خلق الله الكون إلى أن تنتهي الحياة، كمّا عبر عن هذا الواقع سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم). (ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، بل خيركم من أخذ من هذه وهذه).
* * * * *
وإذا حق ذلك، ظهر أنَّ الصوم سُنّة البشرية، وجزء صميم من نظام الكون الذي يجب أن يعيش أبداً إلى جانب الخبز والماء، وأنْ يعيشه الإنسان، كما يعيش البطن والجنس، وما دام له عقل وروح، فهو من الحاجات الأساسية الضرورية للإنسان، وليس من الأحكام الموقوتة، التي تفرض لاستجابة فترة زمنية، حتى يلغيه التطوّر، كما يظن بعض الهائمين مع الأهواء، وكما فعل عبد العزيز الجايط مفتي تونس: إذ تنازل إلى رغبات (بورقيبة) رئيس الحكومة التونسية فأفتى (بإلغاء صيام شهر رمضان، إذا تعارض مع تطوّر البلاد، وعدم صيام الشبان، الذين يجب عليم أن يغذوا أنفسهم، للمحافظة على صحتهم).
وإنّما هو سنّة ثابتة على الدهر، لا يتطوّر أبداً، ما دام الإنسان والكون وما دامت الحياة، عدا الحالات الاستثنائية، التي نص الشرع على استثنائها من أول يوم.
الصوم في سائر الشرائع
ولذلك كان الصوم ركناً في جميع الأديان السماوية، وأشباه الأديان، وحتى في الشرائع الوثنية، فقد كان قدماء المصريين، والإغريق، والرومان، وسكان ما بين النهرين في العراق، يصومون أياماً مختلفة في العام.
وقد روي أنَّ نوحاً (عليه السلام)، صام، عندما جنحت به سفينته إلى البر، غبّ أن عصف به الطوفان، مائة وخمسين يوماً.
ومعروف أنّ موسى بن عمران (عليه السلام)، كان يصوم ثلاثين يوماً كل عام، وكان للعبريين صوم خاص يؤدونه، غير أنَّ اليهود، جعلوا يصومون يوماً واحداً في العام، هو يوم عاشوراء، ابتهاجاً بنجاة بني إسرائيل من الغرق، في البحر الأحمر.
وأما النصارى فأشهر صومهم وأقدمه، هو الصوم الكبير، الذي يقال إنَّ عيسى بن مريم (عليه السلام)، كان يصومه. وقد ابتدع رجال الكنيسة ضروباً أخرى من الصوم، يباشروها الآن.
وتصوم أصحاب الديانات والملل والنحل الحية اليوم، مدداً مختلفة، لها مواعيدها وطقوسها الخاصة.
وقد صامت مريم بنت عمران، ويحيى بن زكريا، صوم الصمت، وقد تحدث القرآن عن صوم الأولى فقال: ((. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا.)). وأنبأ عن الآخر فقال: ((. قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النّاس ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا.)).
tgstm hgw,l