الصوم بين الشرائع والعلم والطب
الصوم عند الأمم والشعوب , مشكاة من الضياء , تنير طريق المؤمنين , وبلسم يضمد الجراح في جسم الصائمين , لأنه تدريب على قوة الصبر , ومقياس لمستوى الاحتمال , التي أرادها الخالق فينا .
والصوم له فلسفته , ويحمل رسالة , تستهدف تحرير الإنسان , من ذل الغرائز والشهوات , وتسمو به إلى مرتبة المسؤولية الأخلاقية والسلوكية , في شرائع جميع الأمم , وأديانها .
وظاهرة الصوم , عبر حقب التاريخ , تعتبر مناسبة لدى جميع الناس , في تعدد أشكال معتقداتها , للمغفرة والتحرر من قيود العادات وأسرها , ومناسبة أيضا , ليتساوى فيها الخلق الإنساني , في الجوع والصبر .
هذا , والصوم بمفهومه العبادي , ووعيه الصحي , يشكل ظاهرة في الحياة اليومية للإنسان , ذلك لأنه يمثل ضرورة لا غنى عنها في بناء الإنسان وحياته .
والصوم بكافة مظاهره , يتمثل في التأثير على قيم الإنسان , وتطلعاته الروحية , وعلاقاته الإيمانية , والتزاماته الأخلاقية , المتكونة في طبيعته . وله كذلك التأثير الفاعل , على نوعية العلاقات الإنسانية والاجتماعية , التي تحكم حياة البشر , فيما بينهم .
ولفظة الصوم في اللغة العربية , الغنية بأدواتها اللفظية , الثرية بمفرداتها اللغوية , كانت تستعمل قديما , بمعنى الإمساك , والامتناع عن الطعام والشراب والكلام والمشي , أو الامتناع عن مزاولة أي نشاط . والأديان جعلت للصوم عنوانا , لعبادة مخصوصة , في شرائعها , وأصبح للصوم دلالة فكرية وتعبدية , وله أحكامه وتشريعاته , وله كذلك آثاره في حياة الإنسان .
والصوم كان منتشرا عبر التاريخ , وتعرفه الأمم السالفة , فقد ورد , أن المصريين القدماء , كانوا يصومون تعبدا للآلهة المسماة ب ( لابيس ) . وأن اليونانيين , كانوا يصومون , تعبدا للآلهة ( زفس , سبريس , زيمتير ) . وكذلك البوهمية , فقد فرضت الصوم على طبقة الكهنة . والبوذية فرضت الصوم على معتنقيها , من شروق الشمس إلى غروبها , وذلك في أيام معينة . وكذلك فان الوثنيين من الهنود , يصومون أياما وأعواما , لكي يرتقوا المراحل العالية , في السيطرة على النفس . وشريعة اليهود , تفرض الصيام في أيام معينة , تخليدا لذكرى وفاة أنبيائهم وشخصياتهم العظيمة , وفي مناسبات تاريخية شتى , وحوادث مفجعة أليمة . والمسيحيون يصومون في أيام خاصة , وقد ذكر الصوم في كتبهم , وفي عدة أسفار منها ( نحميا , وأستير ) وإنجيل متى . وكذلك فرض الصوم على المسلمين , في القرآن الكريم , وهو يعتبر من الركائز التي بني عليها الإسلام , ومن الأركان التي ألزم بها الخالق المسلم لتهذيبه وتربيته , وإعداده نفسيا واجتماعيا , وتنمية الإخاء والمحبة في ذاته , وحث المجتمع على التعاون والتآزر .
فالصوم هو طاعة وعبادة , يذكر الإنسان بخالقه , ويعيد إليه قوة الصلة مع السماء , والتي تنزع الحياة المادية , إلى ابتلاعها , أو تهميشها عبر اللهاث , وخلق المغريات المتعددة , التي تميت الفطرة , وتحيي نزعات الشرك .
من جهة أخرى , فان جميع الشرائع , قد اهتمت بالصوم , اهتماما بالغا , وذلك برفع مستوى البائسين , وشددت كثيرا على حقوق المساكين , كما سلكت تلك الشرائع , أحسن طريق , لحث الإنسان على مساعدة أخيه الإنسان البائس , عبر الصوم , حتى يشعر الغني ببؤس الفقراء , وبذلك يتم التقارب , بين الأغنياء والفقراء .
وعلى صعيد آخر , فان الصوم , يصلح النفس البشرية , ويربيها ويجعلها تترفع عن الشهوات , تتحمل المكاره , ولا تجزع للكوارث , وهو مدرسة تربوية , تؤدي إلى صفاء الإنسان وشفافيته , وفي الصوم تتقوى إرادة الإنسان , وينمو صموده أمام التيارات والأعاصير . وكذلك يتعلم الصائم من صومه النظام , فهو يفطر في وقت محدد , ويمسك عن الطعام في وقت محدد , مما يؤدي إلى احترام الوقت , والاستفادة منه .
وفي نفس المجال أيضا , يقول ألكس كارليل في كتابه الإنسان ذلك المجهول أن كثرة الوجبات وانتظامها , ووفرة ألوانها , تجعل الوظيفة التنسيقية التي لعبت دورا هاما في حياة البشرية عديمة الجدوى . ولقد فرضت الأديان جميعها الصوم , لما له من فوائد جمة , لأن الحرمان من الطعام يثير الشعور بالجوع , كما يثير بعض التنبيه العصبي .
وقديما قيل المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء . وهذا ما دعا فيثاغورس الطبيب اليوناني , لأن يوصي تلامذته بالصوم , وذلك عند المرض . ولقد ذكر الطبيب الأميركي كارلو أنه على كل إنسان مريض , أن يمتنع عن الطعام مدة كل عام , سواء كان غنيا أو فقيرا . لأن الجراثيم , ما دامت تجد الطعام أمامها متوافرا , فإنها تنمو وتتكاثر في الجسم , بينما بالصوم تضعف وتذبل . وكتب أحد الأطباء الروس في كتابه التطبيب بالصوم أن 95 بالمائة , من العلل السارية , قد تشفى بواسطة الإمساك عن الطعام بالصوم .
وهكذا , نرى بأن كثيرا من الكتاب والأطباء تناولوا الفوائد الصحية للصوم , وأكدوا عليه في علاج بعض الأمراض . فالدكتور الدقاق تناول تأثير الصوم في معالجة أمراض الجهاز الهضمي . وعدد الدكتور عبد العزيز إسماعيل جملة من فوائد الصوم , في كتابه الإسلام والطب الحديث . كما كتب الأستاذ فريد وجدي : كان الناس إلى زمن قريب يحسون أن الصيام , من الشؤون الخاصة بالأديان . ولكن لم يكد ينتشر تاريخ الطب بين الناس , حتى علموا أن الصيام , قد اعتبر في كثير من الأمراض , من مقومات الصحة الجسمانية . وتنتشر اليوم في مختلف أنحاء العالم , مصحات طبية , تتخصص بعلاج المرض , بواسطة أساليب الصوم المختلفة , والقسم الأكبر من هذه المصحات , موجودة في الولايات المتحدة وإسبانيا وألمانيا الغربية .
هذا وروي , أن عميد الفلاسفة ( ابن سينا ) كان كلما استعصى عليه حل أمر ما , واعترض سبيل تفكيره , لجأ إلى وسيلة واحدة لحل هذه المعضلات : الصوم . و أبقراط كان يوحي إلى مرضاه بالامتناع عن الأكل فيما إذا كان المرض عسيرا .
ففي صيام الفكر , سعادة الجنان . وفي صيام الجسد , متعة الجسد . فالصيام ضرورة ماسة من وقت لآخر , لكي تنطق خلايا الأعضاء , والأوردة مما ترسب بها من فضلات الغذاء , لكي تكون هذه الترسبات , أحد أسباب المرض الرئيسية , وهكذا يكون الصيام أفضل طريقة , للمحافظة على صحة البدن , والشفاء من الأمراض .