في وصف الغربة
مبدأ القوة
الغربة لا تتشابه حتى لو تساوى استعداد البشر للاغتراب، لأن مبدأ القوة يسري على علاقة الإنسان بالمكان.
من أين جئت، وإلى أين تمضي، معادلة تحدد ثقلك على الأرض. في مدن الشمال الواثقة من نفسها يبدو الغرباء الجنوبيون أكثر هشاشة، والعكس بالعكس؛ فالصلافة الاستعراضية للزائرين الشماليين لا يخطئها الحس في المدن الجنوبية المنكسرة بالفقر.
روما من المدن التي تفضح هشاشة زوارها، ليس فقط لأنها تضغط على الغريب بعمارتها الباذخة، ولا بكرنفال الألوان الذي تحياه، ويجعل مدمني الرمادي والأسود يبدون مذعورين مثل سجناء يتم تعذيبهم بالضوء.
روما سلاحها الحاسم الأنوثة. لا أعرف ما يمكن أن تكون عليه هشاشة امرأة قادمة من شوارع المدن الذكورية كالقاهرة أو بغداد. لكن استبداد الأنوثة هو بالتأكيد حفلة تعذيب للرجل الوحداني. أو كما قال حفني: دسيسة غادرة.
مفارقة شديدة الطرافة يرويها حفني، الشاب المصري الذي قدم إلى روما من أجل أن يأكل عيشا، كغالبية المصريين، لكنه عندما وصلها اكتشف أن الخبز آخر ما يمكن أن يطلبه الكائن من مدينة السبع هضاب.
وجد حفني البنات جميلات بشكل لا يحتمل. في الآحاد الثلاثة الأولى له في روما، كان يتأنق قدر استطاعته، ويمشي متمهلاً، يقطع شوارع المدينة القديمة. وفي كل مرة لا يحنو على وحدته إلا رجل.
ـ أتحب أن تأتي معي؟
ـ لا شكرا، فأنا لسوء الحظ أحب النساء.
في المرات الثلاث كان عليه أن يعتذر بتهذيب الغريب.
في المرة الأولى اعتبرها دسيسة غادرة، رتبها أحدهم سخرية من مدينة لأنوثتها كل هذا الفوح.
وفي المرة الثانية اعتبرها المؤامرة ضده هو، تصور أن هناك من يراقبه ويضحك في مكان ما.
في الثالثة فكر بأن عيبا ما في مظهره يجعله مقصدًا للمتأنثين.
حلق شعره كراهب بوذي، ووقف أمام نافورة الحظ، يبيع أبو فروة، متحديا محال الآيس كريم الإيطالي المميز. 'من حسن الحظ أن الآيس كريم ليس له مثل رائحة أبو فروة'. يقول حفني، وقد صار بوسعه أن يأكل عيشًا، راضيا عن تجارته، ومخذولاً في الوقت نفسه؛ لأن العشاق القادمين من بقاع الأرض يقبلون على الثمرة من غير أن يلحظوا أنها لا تتمزق وتلفظ قلبها فوق جلدها ولا ترسل برائحة الشواء المغوية إلا على نيران رغباته المؤجلة.
ألوان البهجة
لمطر الصيف في روما فضائل أمطار خط الاستواء؛ فهو لا يتسبب في إخفاء بهجة الأزياء الملونة تحت أحزان المعاطف الغامقة، بل فقط في فتح المظلات تاركًا الفساتين لبهجتها، وكأن المطر مجرد حيلة لإكمال الاستعراض.
في زحام الحي التجاري الشهير بقلب روما تحول الرصيف، بفضل ألوان المظلات، إلى شاطئ، حيث تتجاور الألوان وتتداخل بفرح يذكر بألوان الفرنسي هنري ماتيس.
فوق هذا المشهد تكافح لوحة إعلانية ضخمة، تتدلى من السطح إلى الطابق الأول لمتحف ديل كورسو، تحاول أن تلفت النظر إلى حق إدوارد هوبر في الوجود!
معرض ضخم يستضيفه المتحف الإيطالي للأمريكي الأبرع في تصوير وحشة الكائن بين الحربين العالميتين.
لوحة البار الشهيرة ترجمها الإيطاليون إلى نصب من الشمع في مدخل، حيث يجلس الرجلان والمرأة على المشرب، كل منهما غارق في كآبته. وعلى مسافة من البار تجلس فتاتان لا تمتان بصلة إلى مخلوقات هوبر، وجهاهما مضاءان في العتمة، لإبراز بذخ شبابهما وليس البؤس كما في لوحات هوبر، وفوق هذا لم يستطع اللحم الغض الالتزام بحزن الشمع. كانتا تضحكان!
هوبر، عاش بحلم التوصل إلى رسم نور الشمس على الجدار، وقد حقق هذا بإتقان مذهل. لم يستعن بالشحوب اللوني لإثبات شحوب الروح، على العكس، فإن شخصياته الوحدانية ترتدي الأحمر والأزرق، لكن قيود الروح والرغبة في الانعتاق تبدو من خلال النظرة الكسيرة إلى النافذة: نظرة الغريب في وطنه.
غربة أصابع السيدة المضيئة
لتدرجات اللون من سماء بلون الفيروز إلى القمم البنفسجية للجبال إلى السفوح الخضراء تحت شمس الغروب جمال يحمل على البكاء. لم يكن أجمل منها في تلك اللحظة سوى امرأة في عربة قطار.
للجبال، في اللحظة التي احتضنها فيها قوس قزح جمال يتصاعد ثم يخفت ليتصاعد من جديد، لابد أن فيفالدي ألف ألحانه العذبة ناظرا إلى هذه الجبال الخصبة.
للمرأة التي في عربة القطار ألحان أعذب. لها فتنة المتوسط التي نجدها في إسبانيا وإيطاليا واليونان. ذلك الجمال الفاتن بنوعه لا بكمه؛ بسبب هذا التنغيم بالذات، حيث الوجه أفق تصعب الإحاطة به، تحولات من العادي إلى الفاتن مثل نور يشتد ثم يخفت ليشتد من جديد.
بجوار المرأة الأجمل من جبل أخضر، يجلس رجل يتحدث طول الوقت في الموبايل بصوت يزعج كل الركاب؛ فما البال بالرفيقة الفاتنة؟!
كدت أصدر فتوى بتكفيره، هممت أن أسأله بكل أدب: إن كنت في غنى عنها، دعها لي لأتحدث معها، لكنه أحس بالخاطر. أنهى مكالمته، وبدأ يحكي لها مطوقا بيده راحة يدها التي بقيت حزينة كغريب، وبدلاً من أن يبدد غربة اليد، أخذ يعد على أصابعها مبتهجا، ربما بصفقاته الناجحة التي أنجزها في مكالمات استغرقت رحلة قطار من روما إلى تورينو.
td ,wt hgyvfm