النبي, سمي, علية, نسب
بسم الله الرحمن الرحيم
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . إلى هنا معلوم الصحة. وما فوق عدنان مختلف فيه. ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل . وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب. والقول بأنه إسحاق باطل.
ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل. وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وإلا فأهل الفيل نصارى أهل كتاب، دينهم خير من دين أهل مكة . لأنهم عباد أوثان. فنصرهم الله نصرا لا صنع للبشر فيه، تقدمة للنبي الذي أخرجته قريش من مكة، وتعظيما للبلد الحرام.
قصة الفيل:
وكان سبب قصة أصحاب الفيل - على ما ذكر محمد بن إسحاق - أن أبرهة بن الصباح كان عاملا للنجاشي ملك الحبشة على اليمن، فرأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة - شرفها الله - فبنى كنيسة بصنعاء. وكتب إلى النجاشي " إني بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حج العرب " فسمع به رجل من بني كنانة، فدخلها ليلا. فلطخ قبلتها بالعذرة. فقال أبرهة : من الذي اجترأ على هذا ؟ قيل: رجل من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت. فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها. وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، فسأله أن يبعث إليه بفيله. وكان له فيل يقال له: محمود، لم يُرَ مثله عظما وجسما وقوة، فبعث به إليه. فخرج أبرهة سائرا إلى مكة . فسمعت العرب بذلك فأعظموه، ورأوا جهاده حقا عليهم.
فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له: ذو نفر . فقاتله. فهزمه أبرهة وأخذه أسيرا، فقال: أيها الملك استبقني خيرا لك، فاستبقاه وأوثقه.
وكان أبرهة رجلا حليما. فسار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي ، ومن اجتمع إليه من قبائل العرب . فقاتلوهم فهزمهم أبرهة . فأخذ نفيلا، فقال له: أيها الملك إنني دليلك بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة. فاستبقني خيرا لك. فاستبقاه. وخرج معه يدله على الطريق.
فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف . فقال له: أيها الملك، نحن عبيدك. ونحن نبعث معك من يدلك. فبعثوا معه بأبي رِغال مولى لهم. فخرج حتى إذا كان بالمُغَمّس مات أبو رغال ، وهو الذي يرجم قبره. وبعث أبرهة رجلا من الحبشة - يقال له: الأسود بن مفصود - على مقدمة خيله وأمر بالغارة على نَعَم الناس. فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.
ثم بعث رجلا من حمير إلى أهل مكة ، فقال: أبلغ شريفها أنني لم آت لقتال، بل جئت لأهدم البيت. فانطلق، فقال لعبد المطلب ذلك.
فقال عبد المطلب : ما لنا به يدان. سنخلي بينه وبين ما جاء له. فإن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه. وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به من قوة.
قال: فانطلق معي إلى الملك - وكان ذو نَفَر صديقا لعبد المطلب ، فأتاه ، فقال: يا ذا نفر، هل عندك غناء فيما نزل بنا ؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيا، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق، فأسأله أن يعظم خطرك عند الملك.
فأرسل إليه، فقال لأبرهة : إن هذا سيد قريش يستأذن عليك. وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف لأمرك، وأنا أحب أن تأذن له.
وكان عبد المطلب رجلا جسيما وسيما. فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه. وكره أن يجلس معه على سريره. وأن يجلس تحته. فهبط إلى البساط فدعاه فأجلسه معه. فطلب منه أن يرد عليه مائتي البعير التي أصابها من ماله.
فقال أبرهة لترجمانه، قل له: إنك كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك. قال: لِمَ ؟ قال: جئت إلى بيت - هو دينك ودين آبائك، وشرفكم وعصمتكم - لأهدمه. فلم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير؟ قال: أنا رب الإبل. والبيت له رب يمنعه منك.
فقال: ما كان ليمنعه مني.
قال: فأنت وذاك. فأمر بإبله فردت عليه.
ثم خرج وأخبر قريشا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رءوس الجبال، خوفا عليهم من مَعَرَّة الجيش.
ففعلوا. وأتى عبدُ المطلب البيتَ. فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
يا رب لا أرجو لهم سواكا . يا رب فامنع منهمو حماكا
إن عدو البيت من عاداكا . فامنعهمو أن يخربوا قراكا
وقال أيضا:
لا هُمَّ إن المرء يمنع رحله . وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم . ومحالهم غدوا محالك
جرّوا جموع بلادهم . والفيل كي يسبوا عيالك
كنت تاركهم وكعب . تنا فأمْرٌ ما بدا لك
ثم توجه في بعض تلك الوجوه مع قومه. وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول. وعبأ جيشه. وهيأ فيه. فأقبل نفيل إلى الفيل. فأخذ بأذنه. فقال: ابرك محمود. فإنك في بلد الله الحرام. فبرك الفيل، فبعثوه فأبى. فوجهوه إلى اليمن ، فقام يهرول. ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق ففعل ذلك. فصرفوه إلى الحرم فبرك. وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، فأرسل الله طيرا من قبل البحر مع كل طائر ثلاثة أحجار. حجرين في رجليه وحجرًا في منقاره. فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم. فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك. وليس كلَّ القوم أصابت. فخرج البقية هاربين يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن . فماج بعضهم في بعض. يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل. وبعث الله على أبرهة داء في جسده. فجعلت تساقط أنامله حتى انتهى إلى صنعاء وهو مثل الفرخ. وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
رجعنا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم.
وفاة عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد اختلف في وفاة أبيه: هل توفي بعد ولادته أو قبلها؛ الأكثر: على أنه توفي وهو حمل. ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء، منصرفَها من المدينة من زيارة أخواله. ولم يستكمل إذ ذاك ست سنين.
فكفله جده عبد المطلب . ورق عليه رقة لم يرقها على أولاده. فكان لا يفارقه. وما كان أحد من ولده يجلس على فراشه - إجلالا له - إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقدم مكة قوم من بني مُدْلج من القافة. فلما نظروا إليه قالوا لجده: احتفظ به. فلم نجد قدمًا أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه. فقال لأبي طالب : اسمع ما يقول هؤلاء، واحتفظ به.
وتوفي جده في السنة الثامنة من مولده . وأوصى به إلى أبي طالب . وقيل إنه قال له:
أوصيك يا عبد مناف بعدي . بمفرد بعد أبيه فرد
وكنت كالأم له في الوجد . تُدْنيه من أحشائها والكبد
فأنتَ من أرجى بَنيَّ عندي . لرفع ضيم ولشد عضد
. . . .
عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب من سادات قريش ، محافظا على العهود. متخلقا بمكارم الأخلاق. يحب المساكين، ويقوم في خدمة الحجيج، ويطعم في الأزمات. ويقمع الظالمين. وكان يطعم حتى الوحوش والطير في رءوس الجبال. وكان له أولاد أكبرهم الحارث، توفي في حياة أبيه. وأسلم من أولاد الحارث عُبَيدة - قتل ببدر - وربيعة، وأبو سفيان، وعبد الله .
ومنهم: الزبير بن عبد المطلب شقيق عبد الله . وكان رئيس بني هاشم وبني المطلب في حرب الفجار، شريفا شاعرا. ولم يدرك الإسلام. وأسلم من أولاده: عبد الله، واستشهد بأجنادين، وضُباعة، ومَجْل، وصفية، وعاتكة .
وأسلم منهم حمزة بن عبد المطلب ، والعباس .
ومنهم: أبو لهب مات عقيب بدر. وله من الولد: عتيبة الذي دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله السبع. وله عتبة، ومعتب . أسلما يوم الفتح. ومن بناته: أروى . تزوجها كرز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فولدت له عامرًا وأروى . فتزوج أروى عفان بن أبي العاص بن أمية . فولدت له عثمان، ثم خلف عليها عقبة بن أبي مُعَيْط ، فولدت له الوليد بن عقبة ، وعاشت إلى خلافة ابنها عثمان .
ومنهن: بَرَّة بنت عبد المطلب، أم أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
ومنهن: عاتكة أم عبد الله بن أبي أمية . وهي صاحبة المنام قبل يوم بدر. واختلف في إسلامها.
ومنهن: صفية أم الزبير بن العوام . أسلمت وهاجرت.
وأروى أم آل جحش : عبد الله ، وأبي أحمد ، وعبيد الله ، وزينب ، وحَمْنة .
وأم عبد المطلب : هي سلمى بنت زيد من بني النجار ، تزوجها أبوه هاشم بن عبد مناف . فخرج إلى الشام - وهي عند أهلها، وقد حملت بعبد المطلب - فمات بغزة. فرجع أبو رُهْم بن عبد العزى وأصحابه إلى المدينة بتركته. وولدت امرأته سلمى : عبد المطلب . وسمته شيبة الحمد . فأقام في أخواله مكرمًا. فبينما هو يناضل الصبيان، فيقول: أنا ابن هاشم، سمعه رجل من قريش ، فقال لعمه المطلب : إني مررت بدور بني قَيْلة. فرأيت غلامًا يعتزي إلى أخيك. وما ينبغي ترك مثله في الغربة. فرحل إلى المدينة في طلبه. فلما رآه فاضت عيناه، وضمه إليه. وأنشد شعرًا:
عرفت شيبة والنجار قد جعلت . أبناءها حوله بالنبل تنتضل
عرفت إجلاده فينا وشيمته . ففاض مني عليه وابل هطل
فأردفه على راحلته، فقال: يا عم، ذلك إلى الوالدة. فجاء إلى أمه. فسألها أن ترسل به معه، فامتنعت. فقال لها: إنما يمضي إلى ملك أبيه، وإلى حرم الله. فأذنت له. فقدم به مكة ، فقال الناس: هذا عبد المطلب . فقال: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم .
فأقام عنده حتى ترعرع. فسلم إليه ملك هاشم : من أمر البيت، والرفادة، والسقاية، وأمر الحجيج، وغير ذلك.
وكان المطلب شريفا مطاعا جوادا، وكانت قريش تسميه الفياض لسخائه. وهو الذي عقد الحلف بين قريش وبين النجاشي . وله من الولد: الحارث، ومخرمة، وعباد، وأنيس، وأبو عمر، وأبو رهم، وغيرهم.
ولما مات وثب نوفل بن عبد مناف على أركاح (1) شيبة . فغصبه إياها، فسأل رجالا من قريش النصرة على عمه. فقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك. فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتًا، منها:
يا طول ليلي لأحزاني وأشغالي . هل من رسول إلى النجار أخوالي؟
بني عدي ودينار ومازنها . ومالك عصمة الحيران عن حالي
قد كنت فيهم وما أخشى ظلامة ذي . ظلم عزيزًا منيعًا ناعم البال
حتى ارتحلت إلى قومي، وأزعجني . لذاك مُطّلب عمي بترحالي
فغاب مطلب في قعر مظلمة . ثم انبرى نوفل يعدو على مالي
_________
(1) الركح - بضم الراء المهملة وسكون الكاف - المراد به هنا الفضاء بين البيوت.
لما رأى رجلا غابت عمومته . وغاب أخواله عنه بلا والي
فاستنفروا وامنعوا ضيم ابن أختكمُ . لا تخذلوه فما أنتم بخذالي
فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى. وسار من المدينة في ثمانين راكبًا، حتى قدم مكة . فنزل بالأبطح فتلقاه عبد المطلب وقال: المنزل يا خال. فقال: لا والله حتى ألقى نوفلا . فقال: تركته بالحجر جالسا في مشايخ قومه. فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم. فقام نوفل قائمًا، فقال: يا أبا سعد، أنعم صباحًا. فقال: لا أنعم الله لك صباحًا، وسَلَّ سيفه. وقال: ورب هذا البيت، لَئِن لم ترد على ابن أختي أركاحه لأمكنن منك هذا السيف. فقال: رددتها عليه. فأشهد عليه مشايخ قريش . ثم نزل على شيبة، فأقام عنده ثلاثًا. ثم اعتمر ورجع إلى المدينة . فقال عبد المطلب :
ويأبى مازن وأبو عدي . ودينار بن تيم الله ضيمي
بهم رد الإله علي رُكْحي . وكانوا في انتساب دون قومي
فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم، وحالفت بنو هاشم: خزاعة على بني عبد شمس ونوفل . فكان ذلك سببًا لفتح مكة . كما سيأتي.
فلما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب، قالوا: نحن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره. وذلك أن أم عبد مناف منهم. فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وكتبوا بينهم كتابا.
عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأما عبد الله، والد النبي صلى الله عليه وسلم: فهو الذبيح.
وسبب ذلك: أن عبد المطلب أُمر في المنام بحفر زمزم . ووُصِف له موضعها. وكانت جُرْهم قد غلبت آلَ إسماعيل على مكة ، وملكوها زمانًا طويلا. ثم أفسدوا في حرم الله. فوقع بينهم وبين خُزاعة حرب، وخزاعة من قبائل اليمن ، من أهل سبأ . ولم يدخل بينهم بنو إسماعيل . فغلبتهم خزاعة . ونفت جرهما من مكة . وكانت جرهم قد دفنت الحجر الأسود ، والمقام وبئر زمزم . وظهر بعد ذلك قصي بن كلاب على مكة . ورجع إليه ميراث قريش . فأنزل بعضهم داخل مكة - وهم قريش الأباطح - وبعضهم خارجها - وهم قريش الظواهر - فبقيت زمزم مدفونة إلى عصر عبد المطلب . فرأى في المنام موضعها. فقام يحفر. فوجد فيها سيوفا مدفونة وحليا، وغزالا من ذهب مُشَنّفًا بالدر. فعلقه عبد المطلب على الكعبة. وليس مع عبد المطلب إلا ولده الحارث . فنازعته قريش ، وقالوا له: أشركنا، فقال: ما أنا بفاعل. هذا أمر خُصصت به. فاجعلوا بيني وبينكم مَن شئتم أحاكمكم إليه.
فنذر حينئذ عبد المطلب : لئن آتاه الله عشرة أولاد، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة . فلما تموا عشرة. وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه. وكتب كل منهم اسمه في قدح. وأعطوها القِدَاح قَيّم هُبَل - وكان الذي يُجِيل القداح - فخرج القدح على عبد الله . وأخذ عبد المطلب المدية ليذبحه. فقامت إليه قريش من ناديها فمنعوه. فقال: كيف أصنع بنذري ؟ فأشاروا عليه أن ينحر مكانه عشرا من الإبل. فأقرع بين عبد الله وبينها. فوقعت القرعة عليه. فاغتم عبد المطلب، ثم لم يزل يزيد عشرا عشرا، ولا تقع القرعة إلا عليه، إلى أن بلغ مائة، فوقعت القرعة على الإبل. فنحرت عنه. فجرت سنّة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أنا ابن الذبيحين » (1) .
يعني إسماعيل عليه السلام وأباه عبد الله .
ثم ترك عبد المطلب الإبل لا يرد عنها إنسانا ولا سبعا. فجرت الدية في قريش والعرب مائة من الإبل وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت صفية بنت عبد المطلب :
نحن حفرنا للحجيج زمزم . سُقيا الخليل وابنه المكرم
جبريل الذي لم يذمم . شفاء سُقْم وطعام مطعم
_________
(1) الحديث رواه الحاكم في مستدركه بلفظ أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن الذبيحين . كما في كشف الخفا عن المقاصد.
أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأما أبو طالب : فهو الذي تولى تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد جده كما تقدم، ورق عليه رقة شديدة. وكان يقدمه على أولاده.
قال الواقدي : قام أبو طالب - من سنة ثمان من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السنة العاشرة من النبوة أي ثلاثا وأربعين - يحوطه ويقوم بأمره، ويذب عنه. ويلطف به. وقال أبو محمد بن قدامة : كان يقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وله في ذلك أشعار، منها:
ألا أبلغا عني على ذاتِ بيننا . لُؤَيا. وخُصَّا من لؤي بني كعب
بأنا وجدنا في الكتاب محمدا . نبيا كموسى، خُطَّ في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة . ولا خير ممن خصه الله بالحب
ومنها:
تَعَلّم خيارَ الناس أن محمدًا . وزيرٌ لموسى والمسيح ابن مريم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا . فإن طريق الحق ليس بمظلم
ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار. ولما حضرته الوفاة: « دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية - فقال: "يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرددها عليه، وهما يرددان عليه حتى كان آخر كلمة قالها : "هو على ملة عبد المطلب " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك فأنزل الله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (1) ونزل قوله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }» (2) الآية (3) .
قال ابن إسحاق : وقد رثاه ولده علي بأبيات، منها:
أرِقْتُ لطير آخر الليل غردا . يذكرني شجوا عظيما مجددا
أبا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى . جوادًا إذا ما أصدر الأمر أوردا
فأمست قريش يفرحون بموته . ولست أرى حيا يكون مخلدا
أرادوا أمورا زيفتها حلومهم . ستوردهم يوما من الغي موردا
_________
(1) آية 113 سورة براءة.
(2) من الآية 56 سورة القصص.
(3) قصة وفاة أبي طالب أخرجها البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه ورواها أحمد ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة.
يُرَجُّون تكذيب النبي وقتله . وأن يفترى قدمًا عليه ويجحدا
كذبتم وبيت الله حتى نذيقكم . صدور العوالي والحسام المهندا
خلّفَ أبو طالب أربعة ذكور وابنتين. فالذكور: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي، وبين كل واحد عشر سنين. فطالب أسنهم، ثم عقيل، ثم جعفر، ثم علي .
فأما طالب : فأخرجه المشركون يوم بدر كرها. فلما انهزم الكفار طُلِبَ، فلم يوجد في القتلى، ولا في الأسرى، ولا رجع إلى مكة ، وليس له عقب.
وأما عقيل : فأُسر ذلك اليوم. ولم يكن له مال. ففداه عمه العباس .
ثم رجع إلى مكة. فأقام بها إلى السنة الثامنة. ثم هاجر إلى المدينة . فشهد مُؤتة مع أخيه جعفر . وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: « وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ » (1) .
واستمرت كفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا - فلما بلغ اثنتي عشرة سنة - وقيل: تسعًا خرج به أبو طالب إلى الشام في تجارة، فرآه بَحيرى الراهب، وأمر عمه أن لا يقدم به إلى الشام ؛ خوفا عليه من اليهود . فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة .
ووقع في الترمذي . " أنه بعث معه بلالا " وهو غلط واضح. فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا.
_________
(1) الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد.
خروجه إلى الشام وزواجه خديجة :
فلما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة: خرج إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله عنها، ومعه ميسرة غلامها. فوصل بُصْرَى .
ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد . وهي أول امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه. ولم ينكح عليها غيرها. وأمره جبريل: " أن يقرأ عليها السلام من ربها ويبشرها ببيت في الجنة من قصب ".
تحنثه في غار حراء:
ثم حبب إليه الخلاء، والتعبد لربه، فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه (1) وبُغِّضت إليه الأوثان ودينُ قومه. فلم يكن شيء أبغضَ إليه من ذلك. وأنبته الله نباتا حسنا، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا. وأحفظهم لأمانة. حتى سماه قومه " الأمين " لما جمع الله فيه من الأحوال الصالحة، والخصال الكريمة المرضية.
_________
(1) إنما كان تعبده: تفكرا فيما آل إليه أمر الناس من ظلمات الجاهلية المنافية كل المنافاة للعقل والفطرة السليمة، وكيف السبيل إلى إنقاذهم من دركات هذه التقاليد، وإخراجهم من هذه الظلمات، وشفائهم من هذه الأدواء الوبيلة! ويشير إلى ذلك قول الله تعالى : «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى» وقوله: ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك .
بناء الكعبة:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة: قامت قريش في بناء الكعبة حين تضعضعت.
قال أهل السير: كان أمر البيت - بعد إسماعيل عليه السلام - إلى ولده، ثم غلبت جرهم عليه. فلم يزل في أيديهم حتى استحلوا حرمته. وأكلوا ما يهدى إليه. وظلموا من دخل مكة. ثم وَلِيَتْ خزاعة البيتَ بعدهم، إلا أنه كان إلى قبائل من مُضَر ثلاثُ خلال:-
الأولى: الإجازة بالناس من عرفة يوم الحج إلى مزدلفة ، تجيزهم صُوفة.
والثانية: الإفاضة من جَمْعٍ ، غداة النحر إلى منى . وكان ذلك إلى يزيد بن عدوان ، وكان آخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة .
والثالثة: إنساءُ الأشهر الحرم، وكان إلى رجل من بني كنانة يقال له حذيفة ثم صار إلى جُنادة بن عوف .
قال ابن إسحاق : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، جمعت قريش لبنيان الكعبة . وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها، ويهابون هدمها، وإنما كانت رَضْما فوق القامة. فأرادوا رفعها وتسقيفها. وذلك أن قومًا سرقوا كنز الكعبة. وكان في بئر في جوف الكعبة . وكان البحر قد رمى سفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت. فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها.
وكان بمكة رجل قبطي نجار. فهيأ لهم بعض ما كان يصلحها. وكانت حَيّةٌ تخرج من بئر الكعبة التي كان يُطرح فيه ما يهدى لها كل يوم، فتتَشَرَّقُ على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون. وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزَألّت وكَشّت وفتحت فاها. فبينما هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها. فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب. وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها: قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ المخزومي فتناول من الكعبة حجرًا. فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مَهْر بَغِي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة .
فكان شِق الباب: لبني عبد مناف وزهرة. وما بين الركن الأسود واليماني: لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضافت إليهم. وكان ظهر الكعْبة: لبني جُمَح وبني سَهْم. وكان شق الحِجْر : لبني عبد الدار، ولبني أسد بن عبد العزى ، ولبني عدي. وهو الحطيم .
ثم إن الناس هابوا هدمها، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول. ثم قام عليها. وهو يقول: اللهم لا تُرَعْ - أو: لم نَزِغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين. فتربص الناس تلك الليلة. وقالوا: إن أصيب، لم نهدم منها شيئا. ورددناها كما كانت، وإلا فقد رضي الله ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله. فهدم وهدم الناس معه.
حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة، أخذ بعضها بعضا. فأدخل بعضهم عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما. فلما تحرك الحجر: انتفضت مكة بأسرها. فانتهوا عند ذلك الأساس.
ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الحجَر الأسود. فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه، حتى تحاوروا وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جَفنة، مملوءة دمًا. تعاهدوا - هم وبنو عدي بن كعب - على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم. فسموا " لَعقَة الدم" فمكثت قريش على ذلك أربع ليال، أو خمسا.
ثم إنهم اجتمعوا في المسجد. فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية: « أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي - وكان يومئذ أَسَنَّ قريش كلهم - قال: اجعلوا بينكم أولَ من يدخل من باب المسجد. ففعلوا، فكان أولَ من دخل: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين، رضينا به، هذا محمد " فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر. فقال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبًا " فأتي به. فأخذ الركن فوضعه فيه بيده. ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعا " ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه: وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم. ثم بنى عليه . »
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة. وكانوا يرفعون أُزرَهم على عواتقهم، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلُبط به - أي طاح على وجهه - ونودي "استر عورتك" فما رئيت له عورة بعد ذلك.
فلما بلغوا خمسة عشر ذراعا سقفوه على ستة أعمدة.
وكان البيت يُكْسَى القباطي. تم كُسيَ البرود، وأول من كساه الديباج: الحجاج بن يوسف .
وأخرجت قريش الحِجْر لقلة نفقتهم. ورفعوا بابها عن الأرض، لئلا يدخلها إلا من أرادوا. وكانوا إذا أرادوا ألا يدخلها أحد لا يريدون دخوله تركوه حتى يبلغ الباب، ثم يرمونه.
فلما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة: بعثه الله بشيرًا ونذيرًا. وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
بعض ما كان عليه أهل الجاهلية :
ونذكر قبل ذلك شيئا من أمور الجاهلية، وما كانت عليه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة : ذُكر لنا: أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون. كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق. ثم اختلفوا بعد ذلك. فبعث الله نوحًا عليه السلام. وكان أول رسول إلى أهل الأرض. قال ابن عباس : في قوله تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } (1) قال: على الإسلام كلهم. وكان أول ما كادهم به الشيطان: هو تعظيم الصالحين، وذكر اللهُ ذلك في كتابه في قوله: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } (2) قال ابن عباس : كان هؤلاء قومًا صالحين. فلما ماتوا في شهر: جزع عليهم أقاربهم، فصوروا صورهم.
وفي غير حديثه: " قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة" قال: فكان الرجل يأتي أخاه وابن عمه فيعظمه، حتى ذهب ذلك القرن. ثم جاء قرن آخر، فعظموهم أشد من الأول. ثم جاء القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوهم.
_________
(1) من الآية 213 من سورة البقرة.
(2) آية 23 من سورة نوح.
فلما بعث الله إليهم نوحًا - وغرق من غرق - أهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جدة . فلما نضب الماء بقيت على الشط، فسفت الريح عليها التراب، حتى وارتها.
عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم :
وكان عمرو بن لُحَي سيدُ خزاعة كاهنًا وله رِئي من الجن فأتاه. فقال: " عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، ائتِ جُدَّة ، تجد أصنامًا معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، وادع العرب إلى عبادتها تجب " فأتى جدة فاستثارها، ثم حملها حتى أوردها تهامة .
وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها. فأجابه عوف بن عذرة، فدفع إليه وَدًّا فحمله. فكان بوادي القُرَى بدومَةِ الْجَنْدل. وسمى ابنه: عبدَ وَد، فهو أول من سمى به. فلم يزل بنوه يسدنونه، حتى جاء الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد لهدمه. فحالت بينه وبينه بنو عُذْرة وبنو عامر، فقاتلهم فقتلهم. ثم هدمه وجعله جُذاذًا.
وأجابت عمرو بن لحي بن مضَرُ بن نزار . فدفع إلى رجل من هذيل سُواعًا، فكان بأرض يقال لها: وُهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر . وفي ذلك قيل:
تراهم حول قبلتهم عكوفًا . كما عكفت هذيل على سواع
وأجابته مَذْحج . فدفع إلى نعيم بن عمر المرادي يغوث. وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها.
وأجابته همدان فدفع إليهم يعوق. فكان بقرية يقال لها خِيوان . تعبده همدان ومن والاها من اليمن .
وأجابته حمير ، فدفع إليهم نَسْرًا. فكان بموضع بسبأ، تعبده حمير ومن والاها. فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فكسرها.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبه في النار، فكان أول من سيّب السوائب » وفي لفظ: « وغير دين إبراهيم » وفي لفظ عن ابن إسحاق : « فكان أول من غير دين إبراهيم، ونصب الأوثان » .
وكان أهل الجاهلية على ذلك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، مثل تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، وإهداء البُدْن. وكانت نزار تقول في إهلالها: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك " فأنزل الله: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (1) .
_________
(1) آية 28 سورة الروم.
صنم مناة:
ومن أقدم أصنامهم: منَاة. وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشَلّل بقديد، بين مكة والمدينة . وكانت العرب تعظمه قاطبة، ولم يكن أحد أشد تعظيمًا له من الأوس والخزرج ، وبسبب ذلك أنزل الله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (1) الآية فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه فهدمها عام الفتح.
_________
(1) من الآية 158 سورة البقرة.
صنم اللات:
ثم اتخذوا اللات في الطائف ، قيل: إن أصل ذلك رجل كان يَلُت السويق للحاج، فمات. فعكفوا على قبره. وكانت صخرة مربعة، وكان سدنتها ثقيف ، وكانوا قد بنوا عليها بيتًا. فكان جميع العرب يعظمونها، وكانت العرب تسمي زيد اللات، وتيم اللات. وهي في موضع منارة مسجد الطائف .
فلما أسلمت ثقيف ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها، وحرقها بالنار.
صنم العزى :
ثم اتخذوا العُزَّى. وهي أحدث من اللات. وكانت بوادي نخلة . فوق ذات عرق . وبثوا عليها بيتًا. وكانوا يسمعون منها الصوت. وكانت قريش تعظمها. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، بعث خالد بن الوليد فأتاها فعضدها، وكانت ثلاث سمُرات. فلما عضد الثالثة: فإذا بحبشية نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها، تضرب بأنيابها. وخلفها سادنها، فقال خالد :
يا عزُّ كُفرانك لا سُبحانك . إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة. ثم قتل السادن.
صنم هبل:
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها. وأعظمها: هُبَل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان. وكانوا إذا اختصموا، أو أرادوا سفرًا: أتوه فاستقسموا بالقداح عنده. وهو الذي قال فيه أبو سفيان يوم أحد: " اعْلُ هبل " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « قولوا: الله أعلى وأجل » .
وكان لهم إساف ونائلة، قيل: أصلهما أن إسافا رجل من جرهم ، ونائلة امرأة منهم، فدخلا البيت، ففجر بها فيه. فمسخهما الله فيه حجرين، فأخرجهما فوضعوهما ليتعظ بهما الناس، فلما طال الأمد وعبدت الأصنام: عبدا.
ذو الخلصة:
وكان لخَثْعَم وبجِيلة صنم يقال له: ذو الخَلَصة ، بين مكة والمدينة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي : ألا تريحني من ذي الخلصة ؟ فسار إليه بأحمس. فقاتلته همدان ، فظفر بهم وهدمه.
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام .
وكان لأهل كل واد بمكة صنم، إذا أراد أحدهم سفرًا كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به.
صنم عم أنس :
قال ابن إسحاق : وكان لخولان صنم يقال له: عَمّ أنس، وفيهم أنزل الله: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (1) .
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، قالت قريش: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } .
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت. وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة: وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنمًا. فجعل يطعن في وجوهها وعيونها، ويقول: { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } ، وهي تتساقط على رءوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد وحُرِّقت.
_________
(1) آية 136 سورة الأنعام.
رجعنا إلى سيرته صلى الله عليه وسلم فنقول:
بدء الوحي:
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: « أول ما بُدِئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق، الصبح ثم حُبِّب إليه الخلاء. فكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد. قبل أن يَنْزع إلى أهله. ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فاجأه الحق، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك. فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجَهْد. ثم أرسلني. فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني الثالثة فغطّني الثالثة. ثم أرسلني، فقال لي في الثالثة: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ }{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } (1) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، حتى دخل على خديجة بنت خويلد . فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة : كلا والله، ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري
_________
(1) سورة العلق، الآيات : 1-3 .
الضيف، وتُكْسِب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان قد تنصر في الجاهلية. وكان يكتب الكتاب العبراني. فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي. فقالت له خديجة : يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة : يا ابن أخي، ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ؟ قال: أو مخرجيّ هم ؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي. وإن يُدْرِكْني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا . ثم أنشد ورقة :
لججت، وكنت في الذكرى لجوجًا . لهمّ طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف . فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي . حديثَك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قُس . من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدًا سيسود قومًا . ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور . يقيم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا . ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم . شهدت وكنت أولهم ولوجا
ولوجًا بالذي كرهت قريش . ولو عَجّت بمكتها عجيجا
أرَجّي بالذي كرهوا جميعا . إلى ذي العرش -إن سفلوا- عروجا
أمر السفالة غير كفر . بمن يختار من سَمَك البروجا
فإن يبقوا وأبقَ تكن أمور . يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى . من الأقدار متلفة خروجا
فلم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي. حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا. حتى كان يذهب إلى رءوس شواهق الجبال، يريد أن يلقي بنفسه منها، كلما أوفى بذروة جبل تَبَدَّى له جبريل عليه السلام ، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا " فيسكن لذلك جأشه، وتَقَر نفسه، فيرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل، فيقول له ذلك.
فبينما هو يوما يمشي إذ سمع صوتا من السماء. قال: فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرُعبت منه، فرجعت إلى أهلي، فقلت: دثروني. دثروني. فأنزل الله { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ } (1) فحمي الوحي وتتابع . »
_________
(1) الآيتان 1 ، 2 سورة المدثر.
أنواع الوحي :
وكان الوحي الذي يأتيه صلى الله عليه وسلم أنواعا:
أحدها: الرؤيا. قال عبيد بن عمر : " رؤيا الأنبياء وحي " ثم قرأ: { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } (1) .
الثاني: ما كان الملك يلقيه في رُوعه - أي قلبه - من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم: « إن روح القدس نَفَث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله. فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته » .
الثالث: أن الملك يتمثل له رجلا فيخاطبه. وفي هذه المرتبة: كان يراه الصحابة أحيانا.
الرابع: أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليه. فيلتبس به الملك. حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد. وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض. وجاءه مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت ، فكادت تُرَض .
الخامس: أن يأتيه الملك في الصورة التي خلق عليها. فيوحي إليه ما شاء الله . وهذا وقع مرتين، كما ذكر الله سبحانه في سورة النجم.
السادس: ما أوحاه الله له فوق السموات ليلة المعراج، من فرض الصلاة وغيرها.
_________
(1) من الآية 102 سورة الصافات.
قال ابن القيم رحمه الله: أول ما أوحى إليه ربه: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته صلى الله عليه وسلم. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره بالتبليغ. ثم أنزل الله عليه: { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ } (1) فنبأه باقرأ، وأرسله ب: { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } . ثم أمره: أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين.
فأقام بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة من غير قتال ولا جزية. ويأمره الله بالكف والصبر. ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن لم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين، حتى يكون الدين كله لله.
_________
(1) الآيتان 1، 2 من سورة المدثر.
أول من آمن :
ولما دعا إلى الله: استجاب له عباد من كل قبيلة. فكان حائز السبق: صديق الأمة أبا بكر رضي الله عنه. فوازره في دين الله. ودعا معه إلى الله. فاستجاب لأبي بكر عثمان وطلحة وسعد رضي الله عنهم.
وبادر إلى استجابته أيضًا صديقة النساء خديجة رضي الله عنها. وبادر إلى الإسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان ابن ثمان سنين، وقيل: أكثر. إذ كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذه من عمه.
شأن زيد بن حارثة :
وبادر زيد بن حارثة رضي الله عنه، حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلاما لخديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا تزوجها. « وقدم أبوه حارثة وعمه في فدائه، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تَفُكُّون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عبدِك. فأحسن لنا في فدائه. فقال صلى الله عليه وسلم: فهل غير ذلك ؟ فقالوا: وما هو ؟ قال: أدعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم. وإن اختارني: فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني" قالوا: قد زدتنا على النّصَف، وأحسنت. فدعاه. فقال: هل تعرف هؤلاء ؟ قال: نعم أبي وعمي. قال: فأنا من قد علمت. وقد رأيت صحبتي لك. فاخترني، أو اخترهما. فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا. أنت مني مكان أبي وعمي. فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية. وعلى أبيك وعمك، وأهل بيتك ؟ قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك خرج إلى الحِجْر . فقال: أشهدكم أن زيدا ابني، أرثه ويرثني فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما. فانصرفا. ودُعِيَ: زيد بن محمد، حتى جاء
الله بالإسلام فنزلت: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } (1) » قال الزهري : ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد .
وأسلم ورقة بن نوفل . وفي جامع الترمذي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم « رآه في المنام في هيئة حسنة » .
ودخل الناس في دين الله واحدا بعد واحد. وقريش لا تنكر ذلك، حتى بادأهم بعيب دينهم وسب آلهتهم (2) ، وأنها لا تضر ولا تنفع. فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة. فحمى الله رسوله بعمه أبي طالب . لأنه كان شريفا معظما. وكان من حكمة أحكم الحاكمين: بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها.
وأما أصحابه: فمن كان له عشيرة تحميه امتنع بعشيرته، وسائرهم تصدوا له بالأذى والعذاب. منهم: عمار بن ياسر ، وأمه سُمَيّة، وأهل بيته. عُذِّبوا في الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ بهم - وهم يعذبون - يقول: « صبرا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة » .
_________
(1) من الآية 5 من سورة الأحزاب.
(2) لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا شتاما ولا لعانا. وهو الذي أنزل الله عليه: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } ( من الآية 108 سورة الأنعام ) وإنما كان يتلو عليهم ما ينزله الله عليه من الآيات التي تكشف حقيقة أوليائهم وتجردهم مما كان شياطين الإنس والجن نسجوه حولهم في عقول الناس من أكاذيب تجعلهم عند الناس مقدسين كتقديس الله . بل تجعل لهم من صفات الله ما يعتقدون أنها تقدر على كل شيء ، وتسمع وتجيب وغير ذلك مما يدعوهم إلى دعائهم والنذر لهم والحلف بهم وغير ذلك. فحين كان يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات ، يشيع السدنة: أنه يسب آلهتهم ويعيبها.
سمية أول شهيدة:
ومرَّ أبو جهل بسُمَيّة - أم عمار رضي الله عنهما - وهي تعذب ، وزوجها وابنها. فطعنها بحربة في فرجها فقتلها.
وكان الصديق إذا مرَّ بأحد من العبيد يعذب اشتراه وأعتقه. منهم بلال . فإنه عذب في الله أشد العذاب. ومنهم عامر بن فُهَيرة ، وجارية لبني عدي، كان عمر يعذبها على الإسلام. فقال أبو قحافة - عثمان بن عامر - لابنه أبي بكر : يا بني، أراك تعتق رقابا ضعافا. فلو أعتقت قومًا جلدًا يمنعونك ؟ فقال: إني أريد ما أريد. وكان بلال كلما اشتد به العذاب يقول: أحد، أحد .
ابتداء الدعوة:
وقال الزهري : لما ظهر الإسلام، أتى جماعة من كفار قريش إلى من آمن من عشائرهم، فعذبوهم وسجنوهم، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم. قال الترمذي : حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمرو بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهم. قالوا: « قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين مستخفيا . تم أعلن في الرابعة. فدعا الناس عشر سنين، يوافي المواسم كل عام، يتبع الناس في منازلهم. وفي المواسم بعكاظ، ومِجَنّة ، وذي المجاز: يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه. ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره ويحميه. حتى ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، فيقول: "أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا وتملكوا بها العرب ، وتدين لكم بها العجم . فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة" وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه. فإنه صابئ كذاب، فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد. ويؤذونه، ويقولون: عشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك. وهو يقول: اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا ولما نزل عليه قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } صعد الصفا فنادى: واصباحاه. فلما اجتمعوا إليه قال: لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تخرج عليكم من سفح هذا الجبل
أكنتم مصدقيّ ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب : تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا ؟ فأنزل الله قوله تعالى: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }{ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ }» (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله مستخفيًا ثلاث سنين، ثم نزل عليه: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } (2) .
_________
(1) الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس.
(2) آية 94 سورة الحجر.
أول دم أهريق:
وفي السنة الرابعة: ضرب سعد بن أبي وقاص رجلًا من المشركين فشَجّه. وذلك: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها. فرآهم رجل من الكفار، ومعه جماعة من قريش، فسبوهم. وضرب سعد بن أبي وقاص رجلًا منهم، فسال دمه. فكان أول دم أهريق في الإسلام.
استهزاء المشركين
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه - مثل عمار بن ياسر ، وخَبّاب بن الأرَتِّ ، وصُهيب الرومي، وبلال، وأشباههم - فإذا مرت بهم قريش استهزءوا بهم، وقالوا: أهؤلاء - جلساؤه - قد من الله عليهم من بيننا ؟ فأنزل الله: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } (1) وفيهم نزل: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (2) وقال أبو جهل : والله لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأنَّ على رقبته. فبلغه أن رسول الله يصلي، فأتاه. فقال: ألم أَنْهَك عن الصلاة ؟ فانتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أَتَنْتَهِرني، وأنا أعز أهل البطحاء؟ فنزل قوله تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى }{ عَبْدًا إِذَا صَلَّى } (3) وفي بعض الروايات، أنه قال: ألم أَنهك ؟ فوالله ما في مكة أعز من ناديَّ.
_________
(1) من الآية 53 سورة الأنعام.
(2) آية 41 سورة النحل.
(3) الآيتان 9، 10 من سورة العلق.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: « قال أبو جهل : يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وزعم لَيَطأَنَّ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، وقال: بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" فأنزل الله تعالى :- لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه - { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى }{ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى }» (1) .
_________
(1) الآيتان 6، 7 سورة العلق.
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
وفي السنة الخامسة: « أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لما اشتد عليهم العذاب والأذى. وقال: إن فيها رجلا لا يُظلم الناس عنده » .
وكانت الحبشة متجر قريش . وكان أهل هذه الهجرة الأولى: اثني عشر رجلا وأربع نسوة. وكان أول من هاجر إليها: عثمان بن عفان رضي الله عنه ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وستر قوم إسلامهم.
وممن خرج: الزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وأبو سلمة وامرأته رضي الله عنهم. خرجوا متسللين سرا، فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار. فحملوهم إلى الحبشة ، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر. فلم يدركوا منهم أحدًا. وكان خروجهم في رجب. فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان. ثم رجعوا إلى مكة في شوال، لما بلغهم: أن قريشا صافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَفُّوا عنه.
وكان سبب ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم. فلما بلغ: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى }{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } (1) ألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وقد علمنا أن الله يخلق ويرزق ويحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع عنده. فلما بلغ السجدة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون كلهم. إلا شيخًا من قريش . رفع إلى جبهته كفا من حصى فسجد عليه. وقال: يكفيني هذا (2) .
فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا، وخاف من الله خوفا عظيما، فأنزل الله: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } الآيات (3) (4) .
ولما استمر النبي صلى الله عليه وسلم على سب آلهتهم، عادوا إلى شر مما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم.
_________
(1) الآيتان 19 ، 20 من سورة النجم.
(2) قد حقق المحدثون: أن قصة الغرانيق واهية. قال القاضي عياض: إن من ذكرها من المفسرين وغيرهم لم يسندها أحد منهم . ولا رفعها إلى صاحب إلا رواية البزار . وقد بين البزار: أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره، سوى ما ذكره, وفيه ما فيه. ا ه . وإنما سجد المشركون حين أخذتهم عظمة القرآن بقوة أسلوبه وعظمة آياته. وحلال سحره، وعذوبة ألفاظه، وحلاوته الأخاذة. وبالأخص حين قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتلاه حق تلاوته.
(3) الآيات 52، 53، 54، 55 سورة الحج.
(4) ما ذكره هنا هو أحد القولين في القصة والقول الثاني تقدمت الإشارة إليه في ص 36.
الهجرة الثانية إلى الحبشة:
فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة ، وبلغهم أمرهم، توقفوا عن الدخول. ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش . ثم اشتد عليهم البلاء والعذاب من قريش وسطت بهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره. فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية. فخرجوا.
وكان عدة من خرج في المرة الثانية: ثلاثة وثمانين رجلا - إن كان فيهم عمار بن ياسر - ومن النساء تسع عشر امرأة.
فلما سمعوا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا، ومن النساء ثمان. ومات منهم رجلان بمكة . وحبس سبعة. وشهد بدرًا منهم أربعة وعشرون رجلا.
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يزوجه أم حبيبة :
فلما كان شهر ربيع سنة سبع من الهجرة. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام. وكتب إليه: أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان . وكانت مهاجرة مع زوجها عبد الله بن جحش . فتنصر هناك ومات نصرانيا.
وكتب إليه أيضًا: أن يبعث إليه من بقي من أصحابه. فلما قرأ الكتاب أسلم. وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته. وزوجه أم حبيبة، وأصدقها عنه أربعمائة دينار. وحمل بقية أصحابه في سفينتين. فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، وقد فتحها.
بعث قريش إلى النجاشي تطلب إرجاع المسلمين:
ولما كان بعد بدر: اجتمعت قريش في دار الندوة . وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي ثأرًا. فاجمعوا مالا، وأهدوه إلى النجاشي ، لعله يدفع إليكم من عنده ولْنَنْتَدِبْ لذلك رجلين من أهل رأيكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد (1) مع الهدية. فركبا البحر. فلما دخلا على النجاشي سجدا له، وسلما عليه. وقالا: قومنا لك ناصحون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم اتبعوا رجلا كذابًا. خرج فينا يزعم أنه رسول الله، ولم يتبعه إلا السفهاء فضيقنا عليهم، وألجأناهم إلى شعب بأرضنا، لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم أحد. فقتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليهم الأمر، بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك. فاحذرهم. وادفعهم إلينا لنكفيكهم، وآية ذلك: أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يحيونك بالتحية التي تحيَّى بها، رغبة عن دينك.
_________
(1) وعند ابن هشام: أنهم بعثوا معهما عبد الله بن أبي ربيعة.
فدعاهم النجاشي . فلما حضروا صاح جعفر بن أبي طالب بالباب "يستأذن عليك حزب الله" فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه. ففعل. قال: نعم. فليدخلوا بإذن الله وذمته. فدخلوا ولم يسجدوا له. فقال: ما منعكم أن تسجدوا لي ؟ قالوا: إنما نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان. فبعث الله فينا نبيا صادقًا. وأمرنا بالتحية التي رضيها الله. وهي " السلام " تحية أهل الجنة.
فعرف النجاشي أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل .
فقال: أيكم الهاتف يستأذن ؟ فقال جعفر : أنا. قال: فتكلم.
قال: إنك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم. وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي. فأمُرْ هذين الرجلين فليتكلم أحدهما، فتسمع محاورتنا.
فقال عمرو لجعفر : تكلم. فقال جعفر للنجاشي : سله، أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنا عبيدًا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم. فقال عمرو : بل أحرار كرام.
فقال: هل أهرقنا دمًا بغير حق فيقتص منا ؟ قال عمرو : ولا قطرة.
فقال: هل أخذنا أموال الناس بغير حق، فعلينا قضاؤها ؟ فقال عمرو : ولا قيراطًا.
فقال النجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال: كنا نحن وهم على أمر واحد، على دين آبائنا. فتركوا ذلك واتبعوا غيره.
فقال النجاشي : ما هذا الذي كنتم عليه، وما الذي اتبعتموه ؟ قل واصْدُقني.
فقال جعفر : أما الذي كنا عليه فتركناه وهو دين الشيطان: كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة. وأما الذي تحولنا إليه: فدين الله الإسلامُ، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقًا له.
فقال: تكلمت بأمر عظيم. فعلى رِسْلك.
ثم أمر بضرب الناقوس، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب. فقال لهم: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا ؟ قالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى ، وقال: مَن آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي.
فقال النجاشي لجعفر رضي الله عنه: ماذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما يأمركم به ؟ وما ينهاكم عنه ؟.
فقال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر. ويأمرنا بحسن الجوار، وصلة الرحم، وبر اليتيم. ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له.
فقال: اقرأ مما يقرأ عليكم. فقرأ سورتي العنكبوت والروم. ففاضت عينا النجاشي من الدمع. فقال: زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف.
فأراد عمرو أن يُغْضِب النجاشي . فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه.
فقال: ما تقولون في عيسى وأُمه ؟ فقرأ عليهم سورة مريم. فلما أتى على ذكر عيسى وأمه: رفع النجاشي بقَشّةٍ من سواكه قدر ما يقذِي العين. فقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون نقيرًا.
وفيه نزل قول الله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }{ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ } الآيات (1) .
فأقبل النجاشي على جعفر . ثم قال: اذهبوا فأنتم سُيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - من سَبّكم غرم. فلا هوادة (2) اليوم على حزب إبراهيم .
_________
(1) الآيات 83، 84، 85 سورة المائدة.
(2) أي لا محاباة ولا رخصة.
موت النجاشي :
« ولما مات النجاشي، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه كما يصلي على الجنائز. فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة . فأنزل الله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية » (1) .
وقيل: إن إرسال قريش في طلبهم كان قبل الهجرة إلى المدينة .
وفي سنة خمس من النبوة استتر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم .
_________
(1) من الآية 199 سورة آل عمران.
إسلام حمزة بن عبد المطلب :
وفي السنة السادسة، أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر .
قال ابن إسحاق : مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا ، فآذاه ونال منه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد. وكانت مولاة لعبد الله بن جعدان في مسكن لها على الصفا ، تسمع ما يقول أبو جهل . وأقبل حمزة من القَنص متوشحًا قوسه. وكان يسمى: أَعَزَّ قريش . فأخبرته مولاة ابن جدعان بما سمعت من أبي جهل . فغضب. ودخل المسجد - وأبو جهل جالس في نادي قومه - فقال له حمزة : يا مُصَفّر استه. تشتم ابن أخي وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشَجّه مُوضِحة. فثار رجال من بني مخزوم. وثار بنو هاشم . فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة . فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحًا. فعلمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عَزَّ. فكفوا عنه بعض ما كانوا ينالون منه.
إسلام عمر رضي الله عنه:
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: إما عمر بن الخطاب ، أو أبي جهل بن هشام " فكان أحبهما إلى الله: عمر رضي الله عنه » (1) .
_________
(1) الحديث رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن سعد والبيهقي مرفوعًا كما في كشف الخفا.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال لعمر رضي الله عنه : « لم سميت الفاروق ؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام. ثم شرح الله صدري للإسلام. وأول شيء سمعته من القرآن وَوَقَر في صدري: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } (1) فما في الأرض نسمة أحب إليَّ من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألت عنه ؟ فقيل لي: هو في دار الأرقم . فأتيت الدار - وحمزة في أصحابه جلوسًا في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت - فضربت الباب، فاستجمع القوم. فقال لهم حمزة : ما لكم ؟ فقالوا: عمر ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ بمجامع ثيابي. ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي. فقال: ما أنت بمنته يا عمر ؟ فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. فقلت: يا رسول الله، ألسنا على الحق، إن متنا أو حيينا ؟ قال: بلى. فقلت: ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فخرجنا في صفين. حمزة في صف، وأنا في صف - له كديد ككديد الطحن - حتى دخلنا المسجد. فلما نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط. فسماني رسول الله صلى الله عليه
_________
(1) آية 8 سورة طه.
وسلم: الفاروق » .
وقال صهيب : لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حِلقًا، فطفنا واستنصفنا مما غلظ علينا .
حماية أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد أمره ويقوى، ورأوا ما صنع أبو طالب به. مشوا إليه بعمارة بن الوليد . فقالوا: يا أبا طالب ، هذا أنهد فتى في قريش وأجمله. فخذه وادفع إلينا هذا الذي خالف دينك ودين آبائك فنقتله، فإنما هو رجل برجل. فقال: بئسما تسومونني، تعطوني ابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ فقال المطعم بن عدي بن نوفل : يا أبا طالب ، قد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص منك بكل طريق. قال: والله ما أنصفتموني، ولكنك أجمعت على خذلاني، فاصنع ما بدا لك.
وقال أشراف مكة لأبي طالب : إما أن تُخلي بيننا وبينه فنكفيكه. فإنك على مثل ما نحن عليه أو أجمع لحربنا. فإنا لسنا بتاركي ابن أخيك على هذا، حتى نهلكه أو يكف عنا، فقد طلبنا التخلص من حربك بكل ما نظن أنه يخلص.
فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يابن أخي، إن قومك جاءوني، وقالوا كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني ما لا أطيق أنا ولا أنت. فاكْفُفْ عن قومك ما يكرهون من قولك. فقال صلى الله عليه وسلم: « والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك في طلبه" فقال: امض على أمرك، فوالله لا أسلمك أبدًا » .
ودعا أبو طالب أقاربه إلى نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب ، غير أبي لهب ، وقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم . حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة . وأبشر وقَرَّ بذاك منك عيونا
ودعوتني، وعرفتُ أنك ناصحي . ولقد صَدَقْتَ، وكنتَ ثمَّ أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه . من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حِذار مسبة . لوجدتني سمحًا بذاك مبينا
حصار بني هاشم في الشعب:
ولما اجتمعوا - مؤمنهم وكافرهم - على منع رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجتمعت قريش. فأجمعوا أمرهم على ألّا يجالسوهم، ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم. حتى يُسلِموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل. وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق " ألّا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل " فأمرهم أبو طالب أن يدخلوا شعبه فلبثوا فيه ثلاث سنين. واشتد عليهم البلاء وقطعوا عنهم الأسواق. فلا يتركون طعامًا يدخل مكة ، ولا بيعًا إلا بادروا فاشتروه. ومنعوه أن يصل شيء منه إلى بني هاشم. حتى كان يسمع أصوات نسائهم يتضاغون من وراء الشِّعْب من الجوع. واشتدوا على من أسلم ممن لم يدخل الشعب ، فأوثقهم. وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدًا، وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد اغتياله.
فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمره أن يأتي أحد فُرُشهم.
وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة التي قال فيها :
ولما رأيت القوم لا وُدَّ فيهمو . وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى . وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة . وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وأسرتي . وأمسكت من أثوابه بالوصائل
أعوذ برب الناس من كل طاعن . علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمغيظة . ومن ملحق في الدين ما لم يحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه . وراق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت - حق البيت - من بطن مكة . وباللَّه إن اللَّه ليس بغافل
وبالحجر المسود إذ يمسحونه . إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة . على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا . وما فيهما من صورة وتماثل
وبالمشعر الأقصى ، إذا عمدوا له . إلالٍ إلى مفضي الشراج القوابل
ومن حج بيت اللَّه من كل راكب . ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وليلة جمع والمنازل من منى . وهل فوقها من حرمة ومنازل ؟
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ؟ . وهل من معيذ يتقي اللَّه عادل ؟
كذبتم وبيت اللَّه نترك مكة . ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت اللَّه نبزي محمدا . ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله . ونذهل عن آبائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكمو . نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وإنا لعمر اللَّه إن جد ما أرى . لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع . أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم - لا أبا لك - سيدا . يحوط الذمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه . ربيع اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم . فهم عنده في حرمة وفواضل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح . حسود كذوب مبغض ذي دغائل
ومر أبو سفيان عني معرضا . كما مر قيل من عظام المقاول
تفر إلى نجد وبرد مياهه . وتزعم أني لست عنك بغافل
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة . ولا معظم عند الأمور الجلائل
أمطعم إن القوم ساموك خطة . وإني متى أوكل فلست بآكلي
جزى اللَّه عنا عبد شمس ونوفلا . عقوبة شر عاجلا غير آجل
فعبد مناف أنتمو خير قومكم . فلا تشركوا في أمركم كل واغل
وكنتم حديثا حطب قدر فأنتمو ال . آن حطاب أقدر ومراجل
فكل صديق وابن أخت نعده . لعمري وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة . براء إلينا من معقة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب . زهيرا حساما مفردا من حمائل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد . وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل . إذا قاسه الحكام عند التفاضل ؟
حليم رشيد عادل غير طائش . يوالي إلها ليس عنه بغافل
فواللَّه لولا أن أجيء بسبة . تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة . من الدهر جدا ، غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب . لدينا ، ولا يعنى بقول الأباطل
حدبت بنفسي دونه وحميته . ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
نقض الصحيفة ثم بعد ذلك مشى هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي . وكان يصل بني هاشم في الشعب خفية بالليل بالطعام - مشى إلى زهير بن أبي أمية المخزومي - وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - وقال يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك بحيث تعلم ؟ فقال ويحك ، فما أصنع وأنا رجل واحد ؟ أما واللَّه لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها . قال أنا . قال أبغنا ثالثا . قال أبو البختري بن هشام . قال أبغنا رابعا . قال زمعة بن الأسود . قال أبغنا خامسا . قال المطعم بن عدي . قال فاجتمعوا عند الحجون ، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة . فقال زهير أنا أبدأ بها .
فجاءوا إلى الكعبة - وقريش محدقة بها - فنادى زهير يا أهل مكة ، إنا نأكل الطعام . ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى . واللَّه لا أقعد حتى تشق الصحيفة القاطعة الظالمة .
فقال أبو جهل كذبت . واللَّه لا تشق . فقال زمعة أنت واللَّه أكذب . ما رضينا كتابتها حين كتبت . وقال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقار عليه . فقال المطعم بن عدي . وكذب من قال غير ذلك . نبرأ إلى اللَّه منها ومما كتب فيها . وقال هشام بن عمرو نحو ذلك . فقال أبو جهل هذا أمر قد قضي بليل تشوور فيه بغير هذا المكان .
وبعث اللَّه على صحيفتهم الأرضة فلم تترك اسما للَّه إلا لحسته وبقي ما فيها من شرك وظلم وقطيعة وأطلع اللَّه رسوله على الذي صنع بصحيفتهم . فذكر ذلك لعمه . فقال لا ، والثواقب ما كذبتني . فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب ، حتى أتى المسجد وهو حافل في قريش . فلما رأوهم ظنوا أنهم خرجوا من شدة الحصار وأتوا ليعطوهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - فتكلم أبو طالب . فقال قد حدث أمر . لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحا . فأتوا بصحيفتكم - وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها ، فلا يأتون بها - فأتوا بها معجبين . لا يشكون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - مدفوع إليهم قالوا : قد آن لكم أن تفيئوا وترجعوا خطرا لهلكة قومكم .
فقال أبو طالب : لأعطينكم أمرا فيه نصف ، إن ابني أخبرني - ولم يكذبني - أن اللَّه عز وجل بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم وأنه محا كل اسم له فيها ، وترك فيها غدركم وقطيعتكم . فإن كان ما قال حقا ، فواللَّه لا نسلمه إليكم حتى نموت عن آخرنا . وإن كان الذي يقول باطلا ، دفعناه إليكم فقتلتموه . أو استحييتموه . قالوا : قد رضينا . ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر . فقالوا : هذا سحر من صاحبكم فارتكسوا وعادوا إلى شر ما هم عليه . فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا - كما تقدم - وقال أبو طالب شعرا يمدح النفر الذين تعاقدوا على نقض الصحيفة . ويمدح النجاشي ، منه :
جزى اللَّه رهطا بالحجون تتابعوا . على ملأ يهدى بحزم ويرشد
أعان عليها كل صقر كأنه . إذا ما مشى في رفرف الدرع أجرد
قعودا لدى جنب الحجون كأنهم . مقاولة بل هم أعز وأمجد
وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح . وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس . وكان خروجهم في سنة عشر من النبوة . ومات أبو طالب بعدها بستة أشهر 0
موت خديجة وأبي طالب :
وماتت خديجة أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها- بعد موت أبي طالب بأيام . فاشتد البلاء على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - من قومه بعد موت خديجة وعمه وتجرءوا عليه وكاشفوه بالأذى . وأرادوا قتله . فمنعهم الذي من ذلك .
قال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما " حضرتهم . وقد اجتمع أشرافهم في الحجر . فذكروا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - . فقالوا : ما رأينا مثل صبرنا عليه سفه أحلامنا . وشتم آباءنا . وفرق جماعتنا ، فبينما هم في ذلك . إذ أقبل . فاستلم الركن . فلما مر بهم غمزوه " .
وفي حديث أنه قال لهم في الثانية « لقد جئتكم بالذبح » وأنهم قالوا له يا أبا القاسم ما كنت جهولا . فانصرف راشدا . (1) .
_________
(1) الحديث رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمد بن إسحاق.
فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا : ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه . فبينما هم كذلك . إذ طلع عليهم فقالوا : قوموا إليه وثبة رجل واحد . فلقد رأيت عقبة بن أبي معيط آخذا بمجامع ردائه وقام أبو بكر دونه وهو يبكي ، يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه ؟ . وفي حديث أسماء فأتى الصريخ إلى أبي بكر . فقالوا : أدرك صاحبك فخرج من عندنا وله غدائر أربع فخرج وهو يقول ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه ؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر . فرجع إلينا لا يمس شيئا من غدائر إلا رجع معه .
ومرة كان يصلي عند البيت ، ورهط من أشرافهم يرونه فأتى أحدهم بسلا جزور . فرماه على ظهره . وكانوا يعلمون صدقه وأمانته . وأن ما جاء به هو الحق . لكنهم كما قال اللَّه تعالى { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (1) .
_________
(1) من الآية 33 من سورة الأنعام.
وذكر الزهري : أن أبا جهل . وجماعة معه وفيهم الأخنس بن شريق ، استمعوا قراءة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - في الليل فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا . وحملوا فحملنا . وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان . قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى ندرك هذا ؟ واللَّه لا نسمع له أبدا . ولا نصدقه أبدا " .
وفي رواية " إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن بني قصي قالوا : فينا الندوة فقلنا : نعم . قالوا : وفينا الحجابة فقلنا : نعم . قالوا : فينا السقاية . فقلنا : نعم . وذكر نحوه " .
سؤالهم عن الروح وأهل الكهف :
وكانوا يرسلون إلى أهل الكتاب يسألونهم عن أمره ؟ . قال ابن إسحاق عن ابن عباس : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته . فإنهم أهل الكتاب . وعنده ما ليس عندنا من علم الأنبياء .
فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألاهم عنه ؟ ووصفا لهم أمره . فقالت لهما أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث . فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فهو رجل منقول . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها . فما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فأقبلا ، حتى قدما مكة . فقالوا : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها .
فجاءوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألوه عما أخبرهم أحبار يهود . فجاءه جبريل بسورة الكهف فيها خبر ما سألوه عنه . من الفتية والرجل الطواف . وجاءه بقوله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } - الآية (1) .
_________
(1) من الآية 85 من سورة الإسراء.
قال ابن إسحاق : فافتتح السورة بحمده وذكر نبوة رسوله لما أنكروا عليه من ذلك . فقال { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } (1) يعني أنك رسول مني ، أي تحقيق ما سألوه عنه من نبوتك { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } أي أنزله معتدلا . لا خلاف فيه - وذكر تفسير السورة - إلى أن قال { أَمْ }{ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } (2) أي ما رأوا من قدرتي في أمر الخلائق وفيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك وأعجب .
وعن ابن عباس : الذي آتيتك من الكتاب والسنة أعظم من شأن أصحاب الكهف . قال ابن عباس والأمر على ما ذكروا فإن مكثهم نياما ثلاثمائة سنة آية دالة على قدرة اللَّه ومشيئته .
_________
(1) من الآية 1 سورة الكهف.
(2) آية 9 سورة الكهف.
وهي آية دالة على معاد الأبدان كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا } (1) وكان الناس قد تنازعوا في زمانهم هل تعاد الأرواح وحدها ؟ أم الأرواح والأبدان ؟ فجعلهم اللَّه آية دالة على معاد الأبدان وأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - بقصتهم . من غير أن يعلمه بشر . آية دالة على نبوته . فكانت قصتهم آية دالة على الأصول الثلاثة الإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر .
_________
(1) من الآية 21 سورة الكهف.
ومع هذا : فمن آيات اللَّه ما هو أعجب من ذلك . وقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى سؤالهم عن هذه الآيات التي سألوه عنها ليعلموا : هل هو نبي صادق . أو كاذب ؟ فقال { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا } (1) إلى قوله - { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا } وقوله { لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ } - إلى قوله - { إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } (2) . والقرآن مملوء من إخباره بالغيب الماضي . الذي لا يعلمه أحد من البشر . إلا من جهة الأنبياء . لا من جهة الأولياء ولا من جهة غيرها .
وقد عرفوا أنه -صلى اللَّه عليه وسلم - لا يتعلم هذا من بشر . ففيه آية وبرهان قاطع على صدقه ونبوته .
_________
(1) الآيات من 83 - 98 من سورة الكهف.
(2) الآيات من 7 - 102 من سورة يوسف.
قول الوليد بن المغيرة في القرآن " سحر " :
وعن ابن عباس قال « إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - فقال اقرأ علي . فقرأ عليه { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } - الآية (1) فقال أعد . فأعاد . فقال واللَّه إن له لحلاوة . وإن عليه لطلاوة . وإن أعلاه لمثمر . وإن أسفله لمغدق . وإنه ليعلو ولا يعلى عليه . وإنه ليحطم ما تحته . وما يقول هذا بشر » .
وفي رواية " وبلغ ذلك أبا جهل فأتاه . فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا . قال ولم ؟ قال آتيت محمدا لتعوض مما قبله . قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا . قال فقل فيه قولا يبلغ قومك : إنك منكر له . قال ماذا أقول ؟ فواللَّه ما فيكم أعلم بالأشعار مني إلخ " .
_________
(1) من الآية 90 من سورة النحل.
وفي رواية أن الوليد بن المغيرة قال لهم - وقد حضر الموسم - " ستقدم عليكم وفود العرب من كل جانب وقد سمعوا بأمر صاحبكم . فأجمعوا فيه رأيا ، ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضا . فقالوا : فأنت فقل . فقال بل قولوا وأنا أسمع . قالوا : نقول كاهن . قال ما هو بزمرة الكهان ولا سجعهم . قالوا نقول مجنون قال ما هو بمجنون . لقد رأينا الجنون وعرفناه . فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخالجه . قالوا : نقول شاعر . قال ما هو بشاعر . لقد عرفنا الشعر رجزه وهزجه وقريضه . ومقبوضه ومبسوطه قالوا : نقول ساحر قال ما هو بساحر . لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بعقدهم ولا نفثهم قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال ما نقول من شيء من هذا إلا عرف أنه باطل وإن أقرب القول أن تقولوا : ساحر يفرق بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك . فجعلوا يجلسون للناس لا يمر بهم أحد إلا حذروه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - .
فأنزل اللَّه في الوليد بن المغيرة { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } - إلى قوله - { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } (1) . ونزل في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به من عند اللَّه { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } (2) أي أصنافا . وكانوا يسألون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - الآيات فمنها ما يأتيهم اللَّه به لحكمة أرادها اللَّه سبحانه .
_________
(1) الآيات من 11 - 26 من سورة المدثر.
(2) الآية 91 من سورة الحجر.
انشقاق القمر :
فمن ذلك أنهم سألوه أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر . وأنزل قوله { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } - الآيات - إلى قوله { وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } (1) فقالوا : سحركم انظروا إلى السفار فإن كانوا رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق . فقدموا من كل وجه . فقالوا : رأينا . وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - ربما طلب من الآيات - التي يقترحون - رغبة منه في إيمانهم فيجاب بأنها : لا تستلزم الهدى . بل توجب عذاب الاستئصال لمن كذب بها .
_________
(1) الآيات من 1 - 3 سورة القمر.
سؤالهم الآيات :
واللَّه سبحانه قد يظهر الآيات الكثيرة . مع طبعه على قلب الكافر كفرعون قال تعالى { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } - إلى قوله - { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } (1) وقال تعالى { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ } - الآية (2) .
بين سبحانه وتعالى : أنه إنما منعه أن يرسل بها إلا أن كذب بها الأولون فإذ كذب هؤلاء كذلك استحقوا عذاب الاستئصال . وروى أهل التفسير وأهل الحديث عن ابن عباس . قال « سأله أهل مكة أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال حتى يزرعوا . فقيل له إن شئت نستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا هلكوا ، كما هلك من قبلهم . فقال بل أستأني بهم فأنزل اللَّه { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ }» - الآية .
_________
(1) الآيات من 109 - 111 من سورة الأنعام.
(2) آية 59 من سورة الإسراء.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية . قال رحمة لكم أيها الأمة إنا لو أرسلنا بالآيات فكذبتم بها : أصابكم ما أصاب من قبلكم . وكانت الآيات تأتيهم آية بعد آية . فلا يؤمنون بها قال تعالى { وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ }{ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } - الآيات (1) .
أخبر سبحانه بأن الآيات تأتيهم فيعرضون عنها ، وأنهم سيرون صدق ما جاءت به الرسل كما أهلك اللَّه من كان قبلهم بالذنوب التي هي تكذيب الرسل فإن اللَّه سبحانه وتعالى يقول { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا } - الآية (2) وأخبر بشدة كفرهم بأنهم لو أنزل عليهم كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لكذبوا به وبين سبحانه أنه لو جعل الرسول ملكا لجعله على صورة الرجل . إذ كانوا لا يستطيعون أن يروا الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها . وحينئذ يقع اللبس عليهم لظنهم الرسول بشرا لا ملكا .
_________
(1) الآيات من 4 - 6 من سورة الأنعام.
(2) آية 59 من سورة القصص.
وقال تعالى { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } - الآيات (1) . وهذه الآيات لو أجيبوا إليها ، ثم لم يؤمنوا : لأتاهم عذاب الاستئصال وهي لا توجب الإيمان بل إقامة للحجة والحجة قائمة بغيرها . وهي أيضا مما لا يصلح فإن قولهم { حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا } يقتضي تفجيرها بمكة فيصير واديا ذا زرع واللَّه سبحانه وتعالى قضى بسابق حكمته أن جعل بيته بواد غير ذي زرع لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا . فيكون حجهم للدنيا .
وإذا كان له جنة من نخيل وعنب كان في هذا من التوسع في الدنيا ما يقتضي نقص درجته . وكذلك إذا كان له قصر من زخرف . وهو الذهب . أما إسقاط السماء كسفا : فهذا لا يكون إلا يوم القيامة . وأما الإتيان باللَّه والملائكة قبيلا ، : فهذا لما سأل قوم موسى موسى ما هو دونه أخذتهم الصاعقة . وقال تعالى { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ } - الآيات (2) .
_________
(1) الآيات من 90 - 96 من سورة الإسراء.
(2) الآيات من 153 - 161 من سورة النساء.
بين سبحانه أن المشركين وأهل الكتاب سألوه إنزال كتاب من السماء وبين أن الطائفتين لا يؤمنون إذا جاءهم ذلك وأنهم إنما سألوه تعنتا ، فقال عن المشركين { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ } - الآية . (1) .
وقال عن أهل الكتاب { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ } - إلى قوله - { مِيثَاقًا غَلِيظًا } (2) فهم - مع هذا - نقضوا الميثاق وكفروا بآيات اللَّه وقتلوا النبيين . فكان فيه من الاعتبار أن الذين لا يهتدون إذا جاءتهم الآيات المقترحة لم يكن في مجيئها منفعة لهم بل فيها وجوب عقوبة عذاب الاستئصال إذا لم يؤمنوا ، وتغليظ الأمر عليهم . كما قال تعالى { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } الآية (3) .
_________
(1) آية 7 من سورة الأنعام.
(2) من الآية 153 ومن الآية 154 من سورة النساء.
(3) آية 160 من سورة النساء.
ولما طلب الحواريون من المسيح المائدة كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذابا ، لم يعذب اللَّه به أحدا من العالمين . وكان قبل نزول التوراة يهلك اللَّه المكذبين بالرسل بعذاب الاستئصال عاجلا . وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها في الأرض . إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال . كما قال تعالى { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى } (1) بل كان بنو إسرائيل لما كانوا يفعلون ما يفعلون - من الكفر والمعاصي - يعذب اللَّه بعضهم ويبقي بعضهم إذ كانوا لا يتفقون على الكفر ولم يزل في الأرض منهم أمة باقية على الصلاح . قال تعالى { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } - الآية (2) وقال { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } - الآيتين (3) .
_________
(1) آية 43 من سورة القصص.
(2) آية 168 من سورة الأعراف.
(3) الآيتان 113 - 114 من سورة آل عمران.
وكان من حكمته تعالى ورحمته - لما أرسل محمدا -صلى اللَّه عليه وسلم - خاتم المرسلين - ألا يهلك قومه بعذاب الاستئصال بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كالمستهزئين الذين قال اللَّه فيهم { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } - الآيات (1) . والذي دعا عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - أن يسلط عليه ***ا من كلابه فافترسه الأسد كما قال تعالى { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ } - الآية (2) . فأخبر سبحانه أنه يعذب الكفار تارة بأيدي المؤمنين بالجهاد والحدود وتارة بغير ذلك .
فكان ذلك مما يوجب إيمان أكثرهم كما جرى لقريش وغيرهم . فإنه لو أهلكهم لبادوا ، وانقطعت المنفعة بهم ولم يبق لهم ذرية تؤمن بخلاف ما عذبهم به من الإذلال والقهر فإن في ذلك ما يوجب عجزهم والنفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها ، فلا تكاد تنصرف عنها . بخلاف عجزها عنها . فإنه يدعوها إلى التوبة كما قيل من العصمة ألا تقدر ولهذا آمن عامتهم . وقد ذكر اللَّه في التوراة لموسى :
" إني أقسي قلب فرعون . فلا يؤمن بك لتظهر آياتي وعجائبي " .
_________
(1) الآيات 95 - 99 من سورة الحجر.
(2) آية 52 من سورة براءة.
بين أن في ذلك من الحكمة انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه في الأرض إذ كان موسى أخبر بتكليم اللَّه له وبكتابة التوراة له فأظهر له من الآيات ما يبقى ذكره في الأرض . وكان في ضمن ذلك من تقسية قلب فرعون ما أوجب هلاكه وهلاك قومه . وفرعون كان جاحدا للصانع . فلذلك أوتي موسى من الآيات ما يناسب حاله .
وأما بنو إسرائيل - مع المسيح - فكانوا مقرين بالكتاب الأول . فلم يحتاجوا إلى مثل ما احتاج إليه موسى . ولم يكن محتاجا إلى جنس تقرير النبوة إذ كانت الرسل قبله جاءت بما يثبت ذلك . وإنما الحاجة إلى تثبيت نبوته . ومع هذا فقد أظهر اللَّه على يديه من الآيات مثل آيات من قبله وأعظم ومع هذا لم يأت بآيات الاستئصال . بل بين اللَّه في القرآن أنها لا تنفعهم بل تضرهم . لأنه علم أن قلوبهم كقلوب الأولين . كما قال تعالى { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ }{ أَوْ مَجْنُونٌ }{ أَتَوَاصَوْا بِهِ } - الآية (1) وقال تعالى { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } - الآية (2) وقال تعالى { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } (3) ؟ - الآية وسورة اقتربت التي ذكر فيها انشقاق القمر وإعراضهم عن الآيات وقولهم { سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (4) وقال فيها { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } (5) . أي يزجرهم عن الكفر زجرا شديدا ، إذ كان في تلك الأنباء صدق الرسل والإنذار بالعذاب الذي وقع بالمتقدمين . ولهذا يقول عقيب كل قصة { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
_________
(1) الآية 52 ومن الآية 53 من سورة الذاريات.
(2) آية 118 من سورة البقرة.
(3) آية 43 من سورة القمر.
(4) آية 4 من سورة القمر.
(5) آية 16 من سورة القمر.
وَنُذُرِ } أي عذابي لمن كذب رسلي ، وإنذاري لهم بذلك قبل مجيئه .
ثم قال { أَكُفَّارُكُمْ } أيتها الأمة { خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } الذين كذبوا الرسل من قبلكم { أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ }{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } (1) وذلك أن كونكم تعذبون مثلهم . إما لكونكم لا تستحقون ما استحقوا ، أو لكون اللَّه أخبر أنه لا يعذبكم فهذا بالنظر إلى فعل اللَّه . وأما بالنظر إلى قوة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم - وأتباعه . فيقولون { نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } فإنهم أكثر وأقوى ، كما قالوا { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } - إلى قوله - { أَثَاثًا }{ وَرِئْيًا } (2) أي أموالا ومنظرا .
_________
(1) الآيتان 43 - 44 من سورة القمر.
(2) من الآية 73 ومن الآية 74 سورة مريم.
فقال تعالى { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } (1) . أخبر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم - بهزيمتهم وهو بمكة في قلة الأتباع وضعف منهم . ولا يظن أحد - قبل أن يهاجر - بالعادة المعروفة أن أمره يعلو ، ويقاتلهم . فكان كما أخبر . وذلك ببدر وتلك سنة اللَّه . كما قال تعالى { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ } الآية (2) - . وحيث يظهر الكفار ويغلبون فإنما يكون ذلك لذنوب المؤمنين التي أوجبت نقص إيمانهم فإذا تابوا نصرهم اللَّه كما قال تعالى { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (3) فإذا كان من تمام الحكمة والرحمة ألا يهلكهم بالاستئصال كالذين من قبلهم قال تعالى { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ } (4) كان لا يأتي بموجب ذلك مع إتيانه سبحانه بما يقيم الحجة أكمل في الحكمة والرحمة إذ كان ما أتى به حصل به كمال الهدى والحجة وما امتنع منه دفع من عذاب الاستئصال ما أوجب بقاء جمهور الأمة حتى يهتدوا ويؤمنوا .
_________
(1) آية 45 من سورة القمر.
(2) آية 23 من سورة الفتح.
(3) آية 139 من سورة آل عمران
(4) آية 43 من سورة القمر.
وكان في إرسال خاتم الرسل -صلى اللَّه عليه وسلم - من الحكمة البالغة والمنن السابغة ما لم يكن في رسالة غيره . صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين .
رجعنا إلى سيرته -صلى اللَّه عليه وسلم - .
خروجه -صلى اللَّه عليه وسلم - إلى الطائف
ولما اشتد البلاء من قريش على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - بعد موت عمه خرج إلى الطائف ، رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم حتى يبلغ رسالة ربه . ودعاهم إلى اللَّه عز وجل فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا ، وآذوه أشد الأذى . ونالوا منه ما لم ينل قومه . وكان معه زيد بن حارثة مولاه . فأقام بينهم عشرة أيام . لا يدع أحدا من أشرافهم إلا كلمه فقالوا : اخرج من بلدنا . وأغروا به سفهاءهم . فوقفوا له سماطين . وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه هي أشد وقعا من الحجارة . حتى دميت قدماه وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه فانصرف إلى مكة محزونا .
وفي مرجعه دعا بالدعاء المشهور « اللَّهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي ، وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك ، أو ينزل بي سخطك . لك العتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك » (1) .
فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة - وهما جبلاها اللذان هي بينهما فقال « بل أستأني بهم لعل اللَّه أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا » .
_________
(1) عزاه السيوطي في الجامع للطبراني في الكبير عن عبد بن جعفر.
فلما نزل بنخلة في مرجعه قام يصلي من الليل ما شاء اللَّه فصرف اللَّه إليه نفرا من الجن . فاستمعوا قراءته ولم يشعر بهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - حتى نزل عليه { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ } - إلى قوله - { أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (1) . وأقام بنخلة أياما . فقال زيد بن حارثة -رضي اللَّه عنه- كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك ؟ - يعني قريشا - فقال « يا زيد إن اللَّه جاعل لما ترى فرجا ومخرجا . وإن اللَّه ناصر دينه ومظهر نبيه » .
ثم انتهى إلى مكة . فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي أدخل في جوارك ؟ فقال نعم . فدعا المطعم بنيه وقومه فقال البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت . فإني قد أجرت محمدا . فلا يهجه أحد فانتهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم - إلى الركن فاستلمه . وصلى ركعتين . وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون به في السلاح حتى دخل بيته .
_________
(1) الآيات من 29 - 32 من سورة الأحقاف.د
منقول
تحياتي لكم
ksf hgkfd ( lpl] wgn hggi ugdm ,sgl)