ادب, صورة
وقفات مع سورة ق
إثبات البعث ودرجات الإيمان به، والرد على منكريه نقلياً وعقلياً، تفاصيل البعث وحال المؤمن والكافر عند البعث، وأفضلية الإيمان المفصل على الإيمان المجمل، ولا بد من اتساع النظرة وعدم الانحصار في حدود الزمان والمكان، وأهمية الصبر للداعية والاستعانة بالله وعدم الاهتمام بالنتائج.
الحروف المقطعة
بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:1-15]. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فهذه السورة مكية، وهي موسومة باسم الحرف الأول منها تعرف باسم "سورة ق" وهو الحرف الذي بدأت به هكذا "ق" وشأن هذا الحرف كشأن غيره من الحروف المقطعة في أوائل السور كـ(الم) (الر) (كهيعص) (ص). إلى غير ذلك. (ق) فيها أقوال كثيرة أقربها وأحسنها: أن يكون ذكر هذا الحرف إشارة إلى قضية الإعجاز والتحدي للعرب؛ أن هذا القرآن حروفه من جنس الحروف التي بها تنطقون، ومع ذلك فأنتم عن الإتيان بمثله عاجزون، بل بسورة من مثله، بل بشيء من مثله، فهذا أحسن ما قيل فيها، ولذلك غالباً ما يذكر بعد هذه الحروف المقطعة في القرآن مقروءاً أو مكتوباً: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] فهذا قد يدل على رجحان ذلك المعنى.
إثبات البعث
ثم إن هذه السورة العظيمة تُعنى بإثبات وبيان عقيدة البعث التي كانت موضع شك وإشكال عند العرب الذي بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقضية البعث قضية جوهرية، وهي مفرق طريق بين الإيمان والكفر، وبين التزام الشريعة والانحراف عنها، فالذي يؤمن بالبعث سوف يدخل مسألة البعث ضمن حساباته. بمعنى أنه في كل مسألة تعرض له سيراعي عواقبها بعد البعث؛ لأنه يؤمن بالبعث ويعلم أنه صائر إليه، فسينظر في أي مسألة أو قضية تعرض له؛ هل هي تنفعه في يوم البعث أو تضره، والذي لا يؤمن لن يلتفت إلى ذلك أصلاً، بل يكون قصارى موضع النظر عنده الحياة الدنيا، فإذا وجد أن المسألة دنيوياً مربحة ومفيدة، فإنه يقدم عليها؛ لأنه ليس عنده حسابات أخروية، وبالتالي فالفرق بين المؤمن بالبعث والكافر بالبعث كبير جداً، بل هو فرق بين الإيمان والكفر.
رد الله تعالى على من أنكر البعث
إذاً فسورة (ق) تدور حول محور البعث، فأول آية فهيا بعد: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] تشير إلى عجب المشركين واستبعادهم البعث: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3] فهم ينكرون البعث، والغريب؛ أن حجتهم في إنكار البعث هي مجرد تصفيف الألفاظ والاستبعاد العادي، ليس استبعاداً عقلياً، ولكنه استبعاد بحكم العادة: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ هو مستعبد، لكن على أي أساس. فلقد لهم أساس، ولهذا رد الله عز وجل على هذا الاستبعاد بردين:
أعلى الصفحة
درجات الإيمان بالبعث
الإيمان بالبعث نفسه على درجتين: هناك إيمان ذهني عقلي مجرد، مثل ما إذا إنسان نظر وحسب فوجد نتيجة الحسابات أنه لا بد من البعث، لكن هذه النتيجة التي توصل إليها عقله لم يستشعرها قلبه، فلم تتحول عنده إلى عقيدة، وإيمان، وخشية، وخوف، بل ظلت قناعة ذهنية مجردة، وكما يقتنع بأي نتيجة رياضية اقتنع بهذا، ولهذا فرَّق الله تعالى بينهما، فمثلاً وصف الله تعالى المؤمنين المصلين في سورة المعارج فقال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26] فهذا الأمر مجرد التصديق بأن هناك يوماً اسمه يوم الدين، ثم أعقبه بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27-28] فليست القضية مجرد تصديق، بل مع التصديق إشفاق وخوف من عذاب الله تعالى، ومن يوم الدين. وكلما ازداد الإنسان استعداداً ليوم الدين، زاد خوفاً منه، وكلما قل إعداده واستعداده قلَّ خوفه منه، ولهذا تجد أن المؤمن جمع إحساناً وخوفاً كما قال الحسن البصري -رحمه الله- وأما المنافق فجمع إساءة وأمنا، فتجد الإنسان المفرط يمني نفسه بالمنازل العليا في الجنة، ولا تتحرك في رأسه شعرة من ذكر العذاب، وتجد المؤمن، بل تجد المبشرين بالجنة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عنهم_ تجدهم يخافون أن تحبط أعمالهم. إذاً: الإيمان بيوم الحساب، والإيمان بالبعث على درجتين: الدرجة الأولى: الإيمان الذهني المجرد، وهذا قد نمثل له ببعض الذين عُرف عنهم الإيمان ولم يؤثر فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت فـأمية بن أبي الصلت كل شعره تخويف من النار، وترغيب في الجنة، ومع ذلك آمن لسانه وكفر قلبه. الدرجة الثانية من درجات الإيمان بالبعث: أن يتحول هذا الإيمان إلى عقيدة في القلب، وخوف ووجل، وهذا هو الذي يردع وينفع، ويحدو الإنسان إلى العمل الصالح
hdm ,jtsdv [ 2 ( ,rthj lu s,vm r )