الرسول, الصلاة, عليه, وفاة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعــد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]. معاشر المؤمنين: روى الشيخان في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال: (إن عبداً خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عند ربه، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا! وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا). أتعلمون -يا عباد الله- من عبد الله المخير بين ما عند ربه وبين زهرة الدنيا؟ إنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قد اختار لقاء ربه وجواره. عباد الله: الموت حق على كل حي أياً كان كبيراً أو صغيراً، ملكاً أو وزيراً، فكل من عاش لابد أن يموت، سواء قرب الأجل أم بعد: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] حتى الأنبياء والرسل وهم صفوة الله من خلقه، يقول الله جل وعلا: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وقال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35]. وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]. عباد الله: إن مفارقة الأجساد للأرواح لا تقع إلا بعد ألمٍ عظيم، وعناءٍ جسيم تذوقه الروح والجسد جميعاً، فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفته، واشتدت ألفتها له وامتزاجها به ودخولها فيه، حتى صار الروح والجسد شيئاً واحداً، فلا يتفارقان إلا بجهدٍ شديد، وألمٍ عظيم، ولن يذوق ابن آدم في حياته ألماً مثله.
الحث على الإكثار من ذكر هاذم اللذات
قال الربيع بن خثيم: أكثروا من ذكر هذا الموت، فإنكم لم تذوقوا قبله مثله. ثم إن الروح المفارقة للجسد لا تدري أين المستقر والمستودع، لا تدري أين القرار والبقاء، هل هو في الجنة أم في النار، فإن كان العبد عاصياً مصراً على المعصية إلى أن أدركه الموت، فإنه قد يغلب على ظنه أن روحه تصير إلى النار، فتتضاعف بذلك حسرته وألمه، ولا ينفعه عند ذلك ندمه، وربما كشف له مع ذلك عن مقعده من النار، فيراه حين سكراته أو يُبشَّر به، فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره، عياذاً بالله من تلك الحال وسوء المآل. عباد الله: من تذكر تلك الأحوال والمقامات التي يمر بها العبد إبان خروج روحه؛ أدرك الحكمة من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقوله: (أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت). وحسبكم من ذكر الموت -يا عباد الله- أن نستعد له قبل نزوله، وأن نقصِّر الآمال، وأن نرضى بالقليل من الرزق، وأن نُقبل على الآخرة، وتهون علينا مصائب الدنيا، فكل مصيبة دون الموت تهون، وإذا عظمت مصيبتنا في وفاة حبيب لنا أو قريب فلنذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عظمت عليه مصيبته، فليذكر مصيبة المسلمين فيَّ). نعم يا عباد الله: من اشتدت وعظمت وكبرت مصيبته على نفسه، فليذكر أعظم مصيبة فُجعت بها أمة الإسلام، بموت نبيها صلى الله عليه وسلم.
كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح
سيصير المرء يوماً جسداً ما فيه روح
بين عيني كل حي علم الموت يلوح
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن ولـو عمِّرت ما عمر نوح
لما أنزل الله جل وعلا قوله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3] علم صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله. قالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: سبحان الله وبحمده، أستغفره وأتوب إليه). قالت أم سلمة رضي الله عنها: (كان في آخر عمره صلى الله عليه وسلم لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: سبحان الله وبحمده، فذكرت ذلك له فقال: إني أمرت بذلك وتلا: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]). وما زال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب الناس في حجة الوداع قال لهم: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع. ولما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس في طريق بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: (أيها الناس: إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، ثم حض على التمسك بكتاب الله وأوصى بأهل بيته خيراً).
مرض موته صلى الله عليه وسلم
ولما بدأ به صلى الله عليه وسلم مرض الموت خرج إلى أصحابه في المسجد وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر وقال: (إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة) ثم هبط عن المنبر فما رؤي على المنبر بعد ذلك. وفي المسند عن أبي مويهبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع وقال: ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم قال: يا أبا مويهبة! إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد ثم الجنة، فخيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي فاخترت لقاء ربي والجنة) ثم انصرف وابتدأه وجعه الذي قبض فيه، وكان أول ما ابتدأ به صلى الله عليه وسلم من مرضه وجع الرأس. وكان صداع الرأس والشقيقة يعتريه كثيراً في حياته، ويتألم منه أياماً، ففي المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرض الذي بُدئ فيه، فقالت عائشة : وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: وددت أن ذلك كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، فهيأتك ودفنتك، قالت عائشة : كأني بك في ذلك اليوم عروساً ببعض نسائك، أي بعد موتي) فاعجبوا لغيرة النساء، رضي الله عن أم المؤمنين عائشة. فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا وارأساه، ادعوا لي أباك وأخاك، حتى أكتب لـأبي بكر كتاباً). ولم يزل ذلك الصداع وتلك الحمى يشتدان برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استأذن أزواجه ليبقى في بيت عائشة فأذنّ له، وجيء به محمولاً إلى بيتها، ثم إن الحمى اشتدت به صلى الله عليه وسلم في مرضه، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحل أوكيتهن، يتبرد بذلك من شدة الحمى، وكان عليه قطيفة، فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده على النبي صلى الله عليه وسلم من فوقها، فقيل له في ذلك، فقال: (إنَّا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر، وقال: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم). ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وحصل له ذلك غير مرة، فأغمي عليه مرة وظنوا أن وجعه ذات الجنب، فلما أفاق أنكر ذلك وقال: (إن الله لم يكن ليسلطها علي -يعني: ذات الجنب- ولكنه من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر) أي: من سم الشاة التي أهدتها اليهودية له فأكل منها يومئذ، فكان ذلك يثور عليه أحياناً، فقال في مرض موته: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني؛ فهذا أوان انقطاع أبهري). وكان ابن مسعود وغيره يقولون: [إنه صلى الله عليه وسلم مات شهيداً من السم] وقالت عائشة رضي الله عنه: [ما رأيت أحداً كان أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وكان عنده في موته سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفه وقال: (ما ظن محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه) ثم تصدق بها، فلما اشتد وجعه ليلة الإثنين، أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من النساء، فقالت قطِّري لنا في مصباحنا من عكة السمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديد الموت. وكان عند عائشة إزار غليظ مما يصنع في اليمن وكساء، فكانت تقسم بالله أنه صلى الله عليه وسلم قبض فيهما. فلما احتضر صلى الله عليه وسلم اشتد به الأمر فقالت عائشة : (ما أغبط أحداً يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عنده قدح من ماء يدخل يده صلى الله عليه وسلم في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، يقول: اللهم أعني على سكرات الموت، قالت: وجعل يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات). ولما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه، فقال لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم). قالت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير، فلما نزل به الموت ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت وقال: اللهم الرفيق الأعلى، قالت: فعلمت أنه لا يختارنا). وروي أنه لما بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً نزل عليه جبريل عليه السلام قال: (يا أحمد! إن الله قد أرسلني إليك إكراماً وتفضيلاً خاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك، فقال: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، ثم أتاه في الثاني والثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت، فقال جبريل: يا أحمد! هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا بعدك، قال: ائذن له: فدخل ملك الموت فوقف بين يديه، فقال: يا رسول الله! أرسلني الله إليك وأمرني أن أطيعك، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، قال: وتفعل يا ملك الموت، قال: بذلك أمرت أن أطيعك، فقال جبريل: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: فامض يا ملك الموت لما أمرت به، فقال جبريل عليه السلام: عليك السلام يا رسول الله! هذا آخر موطئٍ من الأرض، إنما كنت يا محمد حاجتي من الدنيا). وفي ذلك اليوم الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم وقبل موته كشف الستر عن أصحابه وهم يصلون صلاة الصبح خلف أبي بكر ، فكاد المسلمون أن يفتتنوا من فرحتهم برؤية نبيهم صلى الله عليه وسلم حين نظروا إلى وجهه وظنوا أنه يخرج للصلاة، فأشار إليهم أن مكانكم وأرخى الستر، وتوفي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وظن المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه، لما أصبح يوم الإثنين مفيقاً. ولما علم المسلمون بوفاته صلى الله عليه وسلم منهم من اندهش ومنهم من خولط، ومنهم من أقعد ولم يستطع نهوضاً، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعاً حتى دخل بيت عائشة ، والنبي صلى الله عليه وسلم مسجَّى، فكشف الثوب عن وجهه، وأكب عليه وقبَّل جبهته مراراً وهو يبكي ويقول: [وانبياه واخليلاه واصفياه، إنا لله وإنا إليه راجعون]. ثم قام ودخل المسجد و عمر يكلم الناس وهم مجتمعون، فتكلم أبو بكر وتشهَّد وحمد الله، فأقبل الناس على أبي بكر وتركوا عمر ، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم
,thm hgvs,g ugdi hgwghm ,hgsghl