اللهم يسر لي جليسا صالحـا
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
قال إبراهيم النخعي : ذهب علقمة إلى الشام فلما دخل المسجد قال : اللهم يسّر لي جليسا صالحا ، [فجلس إلى أبي الدرداء .
فقال أبو الدرداء : ممن أنت ؟
قال : من أهل الكوفة .
قال : أليس فيكم أو منكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة - ؟
قال : بلى .
قال : أليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الشيطان - يعني عمارا - ؟
قلت : بلى .
قال : أليس فيكم أو منكم صاحب السواك أو السِّرار ؟ قال : بلى . رواه البخاري .
وفي رواية له . قال : فأتيت قوما فجلست إليهم فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي . قلت : من هذا ؟ قالوا : أبو الدرداء ، فقلت : إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا ، فيسّرك لي . قال : ممن أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة . قال : أو ليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة ؟ وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان يعني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ أو ليس فيكم صاحب سرّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره ؟قال مغيرة : والذي أجاره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم يعني عمّاراً .
وروى مسلم عن يحيى بن يعمَر قال : كان أول من قال في القَدَرِ بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين فقلنا : لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سَيَكِل الكلام إليّ ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفّرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قَدَر ، وأن الأمر أُنُف . قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُدٍ ذهبا فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر ، ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب – فذكر الحديث بطوله - .
وروى الترمذي والنسائي عن حريث بن قبيصة قال : قدمت المدينة فقلت : اللهم يَسِّر لي جليساً صالحا .
قال : فجلست إلى أبي هريرة ، فقلت : إني سألت الله أن يرزقني جليسا صالحا ، فحدِّثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به .
فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ فيُكمل بها ما انتقص من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله على ذلك .
اللهم يسر لي جليسا صالحـا
هذه هي مسألة أولئك الأخيار ، وهذا كان من دعائهم
إن البحث عن جليس صالح في تلك الأزمنة الفاضلة والقرون الخـيِّرة ليس بالأمر العسير بل هو أمر ميسور ، لكثرة الأخيار وقلّة الأشرار .
أما في زماننا هذا فلو قلّبت ناظريك فيمن جلس إليك – في مكان عام – لرأيت أنك أحرى بهذا السؤال ، وبهذه المسألة : " اللهم يسر لي جليسا صالحـا "
إن الجليس الصالح ربما كان أندر من الغُراب الأعصم
كما أن جلساء السوء " أكْثَرُ مِنْ تفَارِيقِ العَصَـا " !
وليت رأس جليس السوء عليه ريشة حتى يُعرَف ويُحذر !
وقديما قيل : الوِحدة خيرٌ من جليس السّوء .
وذلك أن صاحب الوِحدة يُحدّث نفسه ، وحديث النفس معفوٌّ عنه ، وجليس السوء يأمر بالسوء ، فله نصيب مِن وَصْف ( يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء ) .
قال أبو الدرداء : لَصَاحِبٌ صالح خير من الوِحدة ، والوحدة خير من صاحب السوء ، ومُمْلِي الخير خير من الساكت ، والساكت خير من مُمْلِي الشر .
قال ابن حبان : العاقل لا يُصاحب الأشرار ، لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار ، تُعْقِب الضغائن ، لا يَستقيم وِدُّه ، ولا يَفِي بعهده .
وقال أيضا :
وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرا تكون مجالسة الكلب خيرا من عشرته ! ومن يَصحب صاحب السوء لا يَسْلَم ، كما أن من يدخل مداخل السوء يُتَّهَم .
كان فتى يعجب عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فرآه يوما وهو يماشي رجلا مُـتّهماً فقال له :
لا تصحب الجاهـ = ـل إياك وإيـاه
فكم من جاهل أرْدَى = حليما حين آخاه
يُقاس المرء بالمرء = إذا ما هو مـاشَاه
وللشيء من الشيء = مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب = دليلٌ حين يَلْقَاه
ومِن علامات جليس السّوء :
أنه لا يُذكِّرك إذا غَفَلْت
ولا يُعينك إذا ذَكَرْت
ولا يأمرك إذا قصّرت
ولا ينهاك إذ أخطأت
ولا يُقوّمك إذا اعوججت
فلا يأمرك ولا ينهاك
بل هو موافق لك فيما فعلت
ساكت عما قصّرت فيه أو تَرَكْت
تاركك وهواك
فهو ساع في هلاكك
مسرع بك إلى رَداك
فهو يَتركك وهَواك ! زاعما أنه اختار لك الراحة ، وقد اختار لك العَطَب !
تَرْكُ نفسك يوما وهواها = سعي لها في رداهـا
وهذا النوع من الناس يصدق فيهم قول ابن القيم رحمه الله :
إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر .
وكم سَلَبَت المخالطة والمعاشرة من نِعمة ؟
وكم زرعت من عداوة ؟
وكم غرست في القلب من حزازات تَزُول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ؟!
ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة ، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام ، متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر :
أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الْخِلْطَة ، ثم إذا احتاج إليه خالَطَه ، هكذا على الدوام ، وهذا الضرب أعـزّ من الكبريت الأحمر ! وهم العلماء بالله تعالى وأمره ، ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها ، الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولِخَلْقِه ، فهذا الضرب في مخالطتهم الرِّبح كله .
القسم الثاني : مَن مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض ، فما دُمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته ، وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها ، فإذا قَضَيْتَ حاجتك من مخالطة هذا الضرب بَقِيَتْ مخالطتهم مِـنْ :
القسم الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوّته وضعفه ؛ فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه في دِين ولا دنيا ! فهذا إذا تمكّنَتْ مخالطته واتّصَلَتْ فهي مرض الموت الْمَخُوف !
ومنهم مَن مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباً عليك فإذا فارقك سكن الألم .
ومنهم مَن مخالطته حمى الروح ، وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيُفيدك ، ولا يحسن أن يُنصت فيَستفِيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في مَنْزِلتها ، بل إن تكلَّم فكلامه كالعِصِيّ تَنْزِل على قلوب السامعين ! مع إعجابه بكلامه وفَرَحِه به ، فهو يُحْدِثُ مِن فِيهِ كلما تَحَدَّث ! ويظن أنه مِسْكٌ يُطيِّب به المجلس ! وإن سكت فأثقل من نصف الرَّحا العظيمة التي لا يُطاق حملها ولا جرّها على الأرض !
ويُذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر !
ورأيت يوما عند شيخنا - قدس الله روحه - رجلا من هذا الضرب ، والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله ، فالتفت إليّ وقال : مجالسة الثقيل حمى الربع ! ثم قال : لكن قد أدْمَنَتْ أرواحنا على الحمّى فصارت لها عادة - أو كما قال - .
وبالجملة فمخالطة كل مخالِف حمى للروح فَعَرَضِيَّة ولازِمَة .
ومِنْ نكد الدنيا على العبد أن يُبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بُـدٌّ من معاشرته ومخالطته ، فليُعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا !
القسم الرابع : مَن مخالطته الْهُلْك كلّه ، ومخالطته بمنْزِلة أكل السّمّ ، فإن اتَّفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء ! وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثَّرهم الله ، وهم أهل البدع والضلالة الصادّون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الدّاعون إلى خلافها ، الذين يَصُدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ؛ فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ، والمعروف منكرا ، والمنكر معروفا .
إن جرّدت التوحيد بينهم قالوا : تنقَّصْتَ جناب الأولياء والصالحين !!
وإن جرّدت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أهْدَرْتَ الأئمة المتبوعين !
وإن وَصَفْتَ الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا : أنت من المشبِّهين !
وإن أمَرْتَ بما أمر الله به ورسوله من المعروف ، ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا : أنت من المفتّنِين !
وإن اتّبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا : أنت من أهل البدع المضلِّين !
وإن انقطعت إلى الله تعالى وخلّيت بينهم وبين جِيفة الدنيا قالوا : أنت من المبْلِسِين .
وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم ، فأنت عند الله تعالى من الخاسرين ، وعندهم من المنافقين !
فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم ! وأن لا تَشْتَغِل بأعتابهم ولا باستعتابهم ، ولا تبالي بِذَمِّهم ولا بغضبهم ، فإنه عين كَمَالِكَ ، كما قيل :
وقد زادني حباّ لنفسي أنني = بغيض إلى كل أمريء غير طائل
انتهى كلامه رحمه الله بِطُولِه .
وأما مُجالسة الناس ومُخالطتهم فهي غالباً على أمور الدّنيا
" وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " كما قاله غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم .
ومُجالسة الصالحين بـرّ وخير وفلاح
ألا ترى أن الكلب ذُكر في القرآن حين جالَسَ الصالحين ؟
( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ )
قال ابن القيم رحمه الله :
مجالسة العارِف تدعوك من سِتٍّ إلى سِت :
من الشك إلى اليقين
ومن الرياء إلى الإخلاص
ومن الغفلة إلى الذِّكر
ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة
ومن الكِبر إلى التواضع
ومن سوء الطوية إلى النصيحة . اهـ .
والصّاحب دليل على صاحبه ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : المرء على دِين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل . رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
قال هبيرة : اِعْتَبِر الناس بأخدانهم .
وقال الإمام مالك : الناس أشكال كأجناس الطير : الحمام مع الحمام ، والغراب مع الغراب ، والبط مع البط ، والصعو مع الصعو ، وكل إنسان مع شكله !
وقال أبو حاتم بن حبان : وما رأيت شيئا أدل على شيء - ولا الدخان على النار - مثل الصاحب على الصاحب !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فكم من الناس لم يُرَد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره ، لا سيما إن كان نظيره يفعله فَفَعَلَه ، فإن الناس كأسراب القطا مَجْبُولون على تَشَبّه بعضهم ببعض . وذلك لاشتراكهم في الحقيقة ، وأن حُكْم الشيء حُكم نَظِيره ، وشَبِيه الشيء منجذب إليه . اهـ .
فاحرص على مُصاحَبة حامِل الْمِسْك !
وإياك إياك من الجلوس إلى نافِخ الكِير
[/color][/size]
hggil dsv gd [gdsh whgpJh