السوريون يرزحون تحت نير العقوبات فنادق فارغة ومطاعم تشهر إفلاسها فجأة بدأت الجدران تطبق على أصحاب المشاريع الصغيرة من الشباب السوري الذين صدقوا وعود الرئيس بشار الأسد بتطوير الاقتصاد، فقد تم منع تحويل مبالغ مالية متواضعة، ولم تعد لبطاقاتهم الائتمانية قيمة خارج سوريا مع زيادة العقوبات الدولية التي تلقي بظلالها القاتمة على مستقبلهم المالي. حاولت صاحبة مشروع مناديل يد، تحويل مبلغ 450 دولارا الأسبوع الحالي إلى حساب واحد من الموردين في مصرف لبناني، لكن التحويل رفض لأنه من مصرف في سوريا. وتعين عليها أن تسلم المبلغ نقدا يدا بيد. وطلب منها الزبون، وهو مستثمر تصمم له قطع أثاث لفندق جديد في أبوظبي، تصدير أي قطعة تنتهي منها فورا خشية أن يتم إيقاف الشحنة بأكملها. وقالت، وهي تحكم إغلاق سترتها الصوفية السوداء لتقي نفسها من برد الشتاء: «هذا ليس حلا لإنهاء الأزمة في سوريا. إنها طريقة لمعاقبة الرئيس من خلال تجويعنا».
بعد نحو 9 أشهر من اندلاع الاحتجاجات الواسعة ضد نظام الأسد، تجد سوريا نفسها إزاء المزيد من العزلة، حيث تخلى عنها حلفاؤها الذين كانوا يدافعون يوما ما عن استخدام النظام للقوة الغاشمة في قمع المظاهرات، حيث فرضت كل من تركيا وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات اقتصادية عليها. وكانت قسوة الإجراءات جلية تماما للصحافي الذي أعد التقرير الذي تمكن بصعوبة من الحصول على تصريح النظام، الذي يحاول لفت الأنظار لزعمه أن العقوبات المفروضة من قبل جامعة الدول العربية ترتقي إلى مستوى «الحرب الاقتصادية» ضد سوريا.
السؤال الهام بالنسبة للأسد والمجتمع الدولي وعشرات الآلاف الذين يتظاهرون ضد النظام هو: هل ستجبر العقوبات المالية القيادة السورية على وقف العنف ضد المتظاهرين؟ وقد كشفت العقوبات عن أكبر تغيير خلال عهد الأسد وهو ربط سوريا بالاقتصاد العالمي والسماح للمصارف الخاصة بالعمل وإتاحة الفرص أمام الشباب في سوريا التي تقل أعمار ثلاثة أرباع سكانها عن الـ35 عاما.
ويعتقد المتفائلون أن الضغط يمكن أن يؤتي ثماره نظرا لأن كبار رجال الأعمال من المقربين للرئيس، وبخاصة ابن خاله رامي مخلوف، ومنهم أيضا أبناء بعض الأشخاص الذين كانوا مقربين من أبيه. على الجانب الآخر، يشعر المتشائمون بالقلق من أن يغرق النظام، بما فيه الحرس القديم، الاقتصاد بشكل أكبر تشبثا منه بالسلطة. وقال محمد غسان القلاع، رئيس غرفة تجارة دمشق التي تمتلئ غرفة مكتبه بصور بشار الأسد ووالده حافظ الأسد: «حتى اللحظة الأخيرة لم أكن أعتقد أن جامعة الدول العربية سوف تتخذ مثل هذا القرار. لقد كان الأمر موجعا».
وتظل الإحصاءات نادرة هنا، لكن النشاط التجاري والاستثمار تراجع بنحو 50 في المائة، على حد قول أحد المحللين الماليين في دمشق. وتراجعت كذلك التقديرات الخاصة بحجم الانكماش الاقتصادي خلال العام الحالي، حيث تراوحت بين 12 و20 في المائة. ومن المتوقع أن تزداد التقديرات سوءا إذا تم فرض المزيد من العقوبات مثل حظر رحلات الطيران الذي تناقشه جامعة الدول العربية حاليا. ويتم تسريح العمال بشكل كبير، في الوقت الذي وصل فيه معدل البطالة إلى 22 في المائة. وشهد قطاع السياحة، الذي تم تقدير قيمته عام 2010 بنحو 6 مليارات دولار، تراجعا كبيرا.
وبلغت نسبة الإشغال في الفنادق، بحسب مديري الفنادق، 15 في المائة أو أقل، وأشهرت الكثير من المطاعم إفلاسها. وقال محللون ماليون إن سلسلة فنادق «فور سيزونز» الشهيرة الفخمة حاولت غلق فرعها في دمشق، لكن الحكومة السورية، التي تمتلك نحو 50 في المائة من الفندق، رفضت. ورفض سفين ويدنهوبت، المدير العام للفندق، الكشف عن نسبة الإشغال أو عدد العاملين الذين تم الاستغناء عنهم، لكنه أومأ برأسه في إشارة إلى عدم وجود أحد في البهو البارد وقال: «ما زالت الأضواء ساطعة ونحاول أن نحافظ على مستوانا».
وكان ظهور سائحين ألمانيين في أحد الفنادق شمال مدينة حلب أمرا باعثا على الدهشة بالنسبة للعاملين في الفندق الذين اندفعوا نحوهما لالتقاط الصور معهما. وقالت سيدة سورية حضرت ذلك الموقف ورفضت الكشف عن اسمها خشية التنكيل بها: «لقد بدا الأمر وكأنهم قادمون من كوكب آخر».
ورغم منع التحويلات المالية المصرفية بالدولار في إطار العقوبات المفروضة على سوريا، ما زال رجال الأعمال السوريون يستطيعون العمل بعملات اليورو أو الريال السعودي أو الدرهم الإماراتي، حيث ما زالت هذه المنافذ مفتوحة. وقال أحد رجال الأعمال الذي مر بتجربة سابقة مع العقوبات التي فرضت على السودان إنها ليست ذات تأثير كبير لعدم يقظة الدول الأخرى. مع ذلك تم مراقبة تطبيق الحظر على التحويلات المالية إلى سوريا سريعا وعلى نطاق واسع، على حد قوله.
إلى جانب ذلك، يركز نظام الأسد على تصوير الاحتجاجات بأنها غزو مسلح من قبل عناصر جهادية مما جعله لا يتوقع مدى تأثير العقوبات على حد قول محللين. وما زاد هذا الأمر هو إقالة الوزراء المسؤولين عن تحديث الاقتصاد في مارس (آذار) الماضي.
وتراجعت مبيعات النفط التي تمثل جزءا كبيرا من عائدات الدولة لامتناع العملاء الأوروبيين عن الشراء. وصرحت شركة «رويال داتش شل» يوم أول أمس، بأنها ستوقف أي تعاملات لها في سوريا تطبيقا للعقوبات الجديدة التي فرضها الاتحاد الأوروبي. وأكد محللون أنه حتى إن وجدت سوريا أسواقا جديدة، سيكون من المستحيل ضمان وصول الشحنات إلى وجهاتها.
وقال جهاد يازجي، رئيس تحرير موقع «سيريا ريبورت» لخدمة الأخبار، نقلا عن مصدر حكومي، إن إنتاج النفط تراجع إلى 270 ألف برميل يوميا بعد أن كان 368 ألف برميل بسبب تراجع الطلب. وتستورد سوريا النفط الخام الخفيف للمساعدة في تكرير النفط المحلي الثقيل، لذا تواجه نقصا في البنزين والكيروسين والمازوت (زيت التدفئة) في ظل الحظر على الواردات.
وأثرت العقوبات كذلك على القطاع المصرفي، حيث صرحت الحكومة السورية لـ14 مصرفا خاصا بالعمل وكانت بمثابة واسطة العقد في سياسات التحديث الاقتصادي الذي انتهجها بها الأسد. مع ذلك تقلصت الودائع في هذه المصارف بنسبة 20 في المائة على مدى الـ9 سنوات الماضية، بحسب إحدى الدراسات، حيث تم سحب نحو ملياري دولار منها. ويعاني قطاع الإنشاءات هو الآخر، وبخاصة مشاريع البنية التحتية، حيث قال مهندس يشارك كثيرا في المناقصات إنه لا توجد أي مشاريع جديدة وتوقفت بعض المشاريع القائمة. وما زالت أسواق دمشق من الأسواق القليلة في الشرق الأوسط التي تنتج الأعمال اليدوية التقليدية وقطع الأثاث الخشبي المطعم باللؤلؤ والمصابيح النحاسية التي عليها طلب كبير في المنطقة.
وأمام مجموعة من أكواب من شاي التفاح أخذ أحد المنتجين يقول متذمرا إن المشاكل وصلت إلى التعاملات البسيطة، حيث يشعر بالقلق من أن تلقى سوريا مصير العراق، حيث تم فرض عقوبات على النظام وازدهرت أعمال المنخرطين في السوق السوداء من خلال مبيعات النفط غير الشرعية، بينما انتهى الحال بأساتذة الجامعات بقيادة سيارات الأجرة. وقال: «بشار الأسد شخص واحد، لكن السوريين 23 مليونا. سيزيد كل هذا الضغط على سوريا النظام قوة لأنه يمنحه سلطة ونفوذا». وفي ظل تزايد الضغط واستمرار القتل، يسود طرحان هنا.
من ناحية هناك طرح أتباع الفكر التقليدي، وبخاصة رجال الأعمال الكبار الذين عايشوا العديد من العقوبات على مدى الـ30 عاما الماضية، ناهيك عن التخطيط المركزي الاشتراكي الخطير. ومما لا شك فيه أن الإجراءات الجديدة بالنسبة إليهم مثلت ضربة قوية. مع ذلك يرون أن السوريين سوف يتكيفون كما فعلوا في الثمانينات عندما تحملوا سياسات الترشيد أو لجأوا إلى الحدود الأردنية من أجل شراء السلع الأساسية مثل ورق التواليت.
وإن كانت هناك نقطة مضيئة في الأسواق السورية، فهي زيادة مبيعات الأغذية، رغم أن هذا قد يعود إلى تخزين الطعام، الأمر الذي أدى إلى تضخم الأسعار بنحو 20 في المائة، على حد قول الخبراء. ولدى سوريا مخزون من السلع الاستراتيجية مثل القطن وزيت الزيتون ومخزون يكفي عامين من القمح. وأكد مسؤولون تمتع الدولة بالاكتفاء الذاتي من أكثر السلع. وصرح وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، في مؤتمر صحافي أدان فيه العقوبات المفروضة على سوريا قائلا: «لا نخشى على الناس من الجوع أو البرد. من المؤكد أن العقوبات ستؤثر على المواطنين، لكنهم معتادون على مثل هذه الضغوط».
لكن الجيل الشاب الذي يقيم مشاريع صغيرة رائدة غير مقتنع بذلك. وقال أحد المحللين الماليين: «لقد كانوا يستطيعون في السابق العيش في نظام منغلق غير متصل مع العالم الخارجي، لكن كل ذلك تغير. ولم يعد الأمر يتعلق بالخضوع واستهلاك الاحتياطي الاستراتيجي من القمح».
hgs,vd,k dv.p,k jpj kdv hgur,fhj tkh]r thvym ,l'hul jaiv Ytghsih