عرين القذافي يتحول لمزار سياحي معجون أسنان، وكريم ترطيب، وكولونيا بعد الحلاقة، وأحذية، وأغنام وكلاب، ومنفاخ لعجل الدراجات، هذه هي الأشياء التي تملأ مقر الأخ القائد، الذي كان ممنوعا دخوله أو حتى الاقتراب منه منذ أشهر قليلة في تحول مفاجئ لا يقل عما حدث وقت احتلال روما. وقبل خمسة أشهر من الآن، كان يتم اعتقال أي شخص يمر بجوار مجمع باب العزيزية.
لقد تم نهب مجمع العقيد القذافي، الذي كان يوما ما يتمتع بسرية كبيرة داخل العاصمة الليبية طرابلس، في الواقع، لقد قتل القذافي منذ أكثر من أسبوعين، ولكن مشهد هزيمته يتكرر بشكل يومي من خلال انتصار آلاف الليبيين على ما كان يوما ما يمثل مركز قوة بالنسبة للعقيد القذافي، لقد أصبح العرين السابق للقذافي شاهدا على تحقير وازدراء السلطة، حيث تحول ذلك العرين إلى حقول فوضوية وقذرة مليئة بالخراسانة المحطمة وقضبان الحديد والطين.
وقد ملأ المجتمع الليبي الفراغ الذي خلفه زوال العقيد القذافي، محولا هذا المكان الذي كان رمزا لسلطة القذافي إلى مكان عادي للغاية، بعدما تحول لمجرد خلفية لإحدى الأسواق في يوم الجمعة من كل أسبوع، يتجول فيها الباعة والمتسوقون غير مبالين بما يحدث من حولهم. وكل يوم، تتجول العائلات في حطام ذلك المجمع الذي لا يزال يكتسي بلون الدخان وهم يشعرون بسعادة كبيرة. لقد تحول المكان الذي كان القذافي يستقبل فيه قادة الدول الأجنبية ويلقي خطبه المتلفزة والعدوانية، إلى مجرد مكان عادي يلعب فيه الأطفال وهم يحملون بنادق بلاستيكية.
وينظر الآباء والأمهات إلى ذلك المكان بارتياح شديد، وحتى أولئك الذين لم يحملوا السلاح ضد العقيد يمكنهم الآن تعويض 40 عاما من المذلة والمهانة في عهد القذافي. ومن الجدير بالذكر أن حلف شمال الأطلسي قد قصف المجمع مرارا وتكرار خلال هذا العام، قبل أن يستحوذ عليه الثوار في الثالث والعشرين من شهر أغسطس (آب).
وقال خالد الفيتوري (28 عاما)، وهو حارس أمن جاء من بلدة زليتن مع ابنتيه الصغيرتين يوم السبت، إن كل ما قدمه في 42 عاما هو أن يأمر قائلا: «افعل هذا، افعل هذا». وضحكت البنتان عندما رأتا قطعا من شعر مستعار متدلية من إحدى الجدران المغطاة بالكرم. وأضاف الفيتوري: «نريد أن نرى كيف كان يعيش القذافي».
وتذكر سعد عمار العربي، وهو سائق سيارة أجرة، كيف تم اعتقاله منذ نحو خمس سنوات وتم استجوابه لمدة ساعة لأنه وقف بسيارته خارج الجدران السميكة العالية للمجمع، وقال إن المحققين قد قالوا له: «لن ترى الشمس غدا». وأضاف العربي: «حمدا لله لأننا أصبحنا أحرارا الآن».
وقد انقلبت الأماكن السياحية الشهيرة في العاصمة الليبية طرابلس رأسا على عقب، حتى أصبحت المدينة القديمة للأتراك العثمانيين خاوية من الزائرين، وكذلك الآثار الرومانية الرائعة في لبدة الكبرى.
وبدلا من ذلك، أصبح الزائرون متعطشين لزيارة باب العزيزية، الذي كان مركزا للجان الثورية للعقيد القذافي ومكتبا للاستخبارات، والثكنات العسكرية، وحتى مجمع سجن أبو سليم المترامي الأطراف الذي كان يتم فيه تعذيب وقتل المعتقلين السياسيين.
قال محمد خليفة السويسي، وهو رجل عيناه يملؤها الحزن، ويحمل كاميرا لتسجيل أبواب الزنزانات المفتوحة، والنعال المبعثرة، وأكوام الأسلاك والزجاج المكسور، والحشيات الممزقة في السجن الذي بات مهجورا: «لقد مات أصدقائي هنا».
وأخذ يتذكر في وقت الغسق الخمسة عشر عاما الماضية عندما كانت جدران هذا السجن ترتج بهتاف «الله أكبر» مع سقوط القذائف على المعتقلين المكومين في باحة مغلقة. لقد توفي نحو 1200 شخص في ساعتين ونصف الساعة، ولا تزال آثار الطلقات النارية باقية في هذه الجدران الصماء. لقد قضى السويسي 12 عاما من عمره في سجن أبو سليم بسبب الرسم على الجدار رسوما مناهضة للقذافي في وسط البلد، على حد قوله. وأمام أشعة الشمس الغاربة أمام البحر بالقرب من ميدان الشهداء، حيث خطب العقيد معمر القذافي في الجماهير، ومن قبله موسوليني، وقف الناس أمام طاولات عليها أكوام من الملصقات الغريبة كبيرة الحجم. إنهم لا يشترونها، بل يبحلقون مشدوهين حين يرون صورا للقذافي وهو يرتدي ملابس لامعة، والقذافي وهو يحمل نجمة داود، وأيضا لحلاق فقير شخص يحلق ذقنه، وكذلك صورة أخرى وهو يخرج من أنابيب الصرف الصحي.
وتتضح مظاهر التحرر من تحكم العقيد القذافي المخبول في أماكن أخرى أيضا، ففي مدينة مصراتة يصطف الناس لأيام لرؤية جثته، وهي الدليل الذي يؤكد أن الأخ القائد غير خالد مثله مثل باقي البشر. وفي بنغازي، زينت الجدران برسوم تفوق في حدتها ما نجده في طرابلس، حيث يوضح أحد الرسوم القذافي وهو يتوج على مرحاض. وتعتبر سوق الجمعة في باب العزيزية دليلا على أن الفرص التجارية التي أتاحها سقوطه لا حدود لها، حيث مزجت السوق بطريقة بارعة بين كونها مزارا (تعالوا وانظروا كيف كان الأخ القائد يعيش!)، وكونها مركزا للتسوق في الهواء الطلق. وتنجح الرغبة في إلقاء نظرة خاطفة على الخدر الذي كان يقيم فيه العقيد، والذي أصبح الآن خرابا، في جذب الزائر للسوق، بحيث يصبح من السهل بعد ذلك بيع أي شيء له، حتى لو كان مجرد سلك توصيل، بمبلغ كبير.
وقد تأقلم الباعة الذين وقفوا يبيعون بضاعتهم هناك في الأسابيع الأخيرة، مع المعالم غير العادية المحيطة بهم، والتي تتضمن جبلا من الأنقاض كان بمثابة الأطلال الخاصة للعقيد، حيث ظل يحافظ عليه بعناية لمدة 25 عاما – فهذه الأطلال هي أطلال المبنى الذي قصفته الولايات المتحدة في عام 1986 – والذي أصبح الآن مجرد خلفية للمنضدة التي يعرض عليها عبده سلام آل حراشي بضاعته من السلع الكهربائية، الذي قال: «أي مكان تستطيع الذهاب إلية للحصول على المال هو مكان جيد، فالمكان لا يعنيني كثيرا طالما أتمكن من بيع بضاعتي فيه».
وقال عمر رمضان، وهو أحد المتسوقين، الذي كان يمسك أكياسا بلاستيكية تحتوى على مستلزمات اشتراها حديثا: «لا يستطيع عقلي أن يصدق ما حدث، ولا أستطيع أن أصف شعوري كليبي»، ولكن ابتسامته العريضة كانت تشي بالكثير.
وداخل البستان المحاط بالأسوار، حيث يقع مقر إقامة العقيد، كان هنا صبيان يجريان في أنحاء المكان، وهما أبناء المواطن ناصر الغيطي الذي قال: «بينما كنا نقصف بالصواريخ التي تستهدف أطفالنا، كان هو يعيش سعيدا هنا».
وقال فتحي مبروك آل خليفة، الذي كان قد اشترى للتو بعض الملصقات الثورية التي تحمل شعارات الحكومة الجديدة: «لقد كان الديكتاتور يعيش هنا، ولكن المكان الآن أصبح مكانا لسوق الجمعة، ونحن لا نزال نشعر أننا نعيش في حلم».
uvdk hgr`htd djp,g gl.hv sdhpd